سمعت قبل سنوات أن موظفاً عراقياً انتقده أصحابه وعيروه على قبض رشوة. كان ذلك في أيام اعتبر الناس فيها الارتشاء والاختلاس عيباً شنيعاً. قالوا له: ما عندك شرف؟
تذكرت ذلك وأنا أقرأ التقرير الذي نشرته خدمات «كريستيان ساينس مونيتور» عن أسلوب «الشين بيت» في الحصول على متعاونين معها من بين الفلسطينيين. عمدت إلى تصوير صور فوتوغرافية للفلسطينيات أثناء أخذ مقاييسهن لدى الخياطات، ثم ابتزاز أهلهن بنشر هذه الصور ما لم يتعاونوا معها، فلا يجدون غير الإذعان لطلبات «الشين بيت» حفظاً على شرف بناتهن. ما يعنيه ذلك هو أن المواطن الفلسطيني يفضل التضحية بشرف بلاده وقضيته وأرواح زملائه وإخوانه من أجل المحافظة على سمعة بناته. والسمعة هنا لا تتجاوز في أسوأ الأحوال غير انكشاف أجزاء من أجسامهن. فالمرأة لا تنزع ملابسها أو تكشف عن جسدها لعمل بروفات لثيابها. ومع ذلك اعتبر الرجل أن التضحية بالوطن وبحياة إخوانه أفضل من تفرج الناس على مجرد صور لجزء من رجل بنته أو ظهرها.
هذا هو المقياس الشرقي للشرف. الغربيون عندهم مقياس من نوع آخر تماماً. في العهد السوفياتي حاولت الـ«كي جي بي» ابتزاز دبلوماسي بريطاني بتصويره سراً. فرجوه على التصاوير لإيقاعه وابتزازه. نظر عليها ثم قال لهم هاشاً باشاً: شيء ظريف. ممكن تعطوني نصف دوزينة منها لعرضها على زملائي؟
هنا رجل يضع شرف الواجب فوق شرفه الخاص، ومصلحة وطنه فوق مصلحة مستقبله الدبلوماسي.
مقياسان مختلفان. كم وكم سمعت وعرفت عن أمهات أوروبيات يتركن البيت لبناتهن لتعطيهن «خلوة صحيحة» مع أصدقائهن أو عشاقهن. ولكن أوه يا ويل الابنة عندما يسمعن عنها تكذب أو تزور على مكتب الضمان الاجتماعي لتحصل على مخصصات لا تستحقها، أو تتغيب عن عملها بالادعاء كذباً بالمرض. التاريخ الأوروبي مليء بالوقائع التي واجه فيها ساستهم وقادتهم هذا الخيار الصعب بين شرفه الشخصي وشرف امرأته وعائلته من ناحية، وشرف الواجب من الناحية الأخرى ولم يترددوا في تغليب الواجب على كل شيء.
يعكس هذا التباين في القياس ضحالة الشعور الوطني والجماعي عندنا. ما يعنيني هو ما يخصني مباشرة. ولائي الأول لنفسي ثم أسرتي. الأوطان بالنسبة لمعظمنا شيء جديد. هناك من يشك حتى في مصداقية بلدان كالعراق وفلسطين ككيان له بعد تاريخي. بغداد أخذها المغول ثم الفرس ثم الترك ثم الإنجليز ثم كل من هب ودب. ولكن زوجتك هي امرأتك وابنة عمك. لم يأخذها أحد غيرك. ودفعت عنها مهراً غالياً. شرفها أمر يخصك. إنها ملكك.
جريدة الشرق الاوسط