إلى أن توفي في تلك القرية الصغيرة على المحيط الأطلسي، والتي اختار أن يمضي فيها السنوات الأخيرة من حياته، ظل الكاتب الفرنسي الكبير جوليان غراك (1910-2007) الذي رفض الحصول على العديد من الجوائز المرموقة، ومن بينها جائزة غونكور، عزُوفا عن الظهور في الصالونات الأدبية، وعن الإدلاء بحوارات للصحف ووسائل الإعلام البصرية. وللذين كانوا يسعون إلى الاقتراب من عالمه، كان يقول “اقرأوا كتبي لأنها مرآة نفسي”.
ولم يكن جوليان غراك الوحيد الذي كان يفضل العيش بعيدا عن الأضواء. فمثله كان جان جينيه يمقت الدعاية ووسائل الإعلام والجلوس مع كتاب ومثقفين يمضون أوقاتهم في الثرثرة حول الفن والأدب. وكان دائما يهرب إلى المدن البعيدة مثل طنجة ليجالس البحارة والمهربين واللصوص.
وقبل وفاته بعشرين عاما، ترك الشاعر الفرنسي الكبير رنيه شار باريس نهائيا مفضلا الاستقرار في مسقط رأسه جنوب فرنسا حيث ضياع الفلاحين البسطاء. وفي بيت جدّه القديم، كان يستقبل أصدقاءه ومحبيه. وحتى عندما صدرت أعماله الكاملة في سلسلة “البلياد” الشهيرة.
وبعد أن حصل على شهرة عالمية واسعة بفضل روايته “حارس حقل الشوفان”، اختفى الكاتب الأميركي سالنجر عن الأنظار، مُخفيا مكان إقامته حتى عن أقرب الناس إليه. وظل محافظا على عزلته المطلقة إلى أن توفي مطلع عام 2010.
وفي تراثنا العربي، نعثر على أمثلة كثيرة للأدباء والشعراء الذين اختاروا العيش في الصمت والعزلة. فالشعراء الصعاليك كانوا يجوبون الفيافي بعيدا عن صخب القبائل وحروبها. وفيها كانوا يستأنسون بعواء الذئاب في الليل البهيم. وفي عزلته المديدة بمعرة النعمان، أبدع أبوالعلاء المعري أروع أعماله في النثر كما في الشعر والتأملات الفكرية والفلسفية.
أما في زمننا الراهن فإن الباحثين عن الشهرة السريعة والكاذبة خصوصا في عالمنا العربي فهم الذين يتحكمون في الحياة الثقافية. وجميعهم يتهافتون على الحوارات الصحافية. وهم مستعدون لبيع ماء الوجه من أجل الظهور في التلفزيون. وفي الندوات هم يكثرون من الثرثرة الموجعة للرأس، مُعتقدين أنها قد تبيح لهم الحصول على السلطة الفكرية والثقافية التي يحلمون بها. وهم يبالغون في المفاخرة بأنفسهم، ويتباهون بالجوائز التي حصلوا عليها، وبالرسائل الجامعية التي أنجزت حول أعمالهم رغم وسطحيتها.
وفي تونس، بات البحث عن الشهرة الزائفة ظاهرة خطيرة ومنفرة خصوصا في السنوات الأخيرة. والباحثون عنها لا رصيد مُهمّا لهم في مجال الثقافة أو الفكر أو الفن. وهم ينسبون إلى أنفسهم بطولات وهمية كأن يفاخروا بأنهم كانوا من المعارضين “الشرسين” لنظام بن علي في حين أن سجلهم المعروف لدى الجميع يثبت أنهم كانوا من الخدم الطيّعين للنظام المذكور، وأبدا لم تصدر عنهم كلمة أو حركة تدل على العصيان والتمرد. وهناك من بينهم من ينسبون إلى أنفسهم أمجادا أخرى كأن يستخرجوا من عمل من أعمالهم البائسة جملة يحاولون من خلالها أن يقنعوا الناس بأنهم كانوا قد تنبأوا بالثورة التي أطاحت بنظام بن علي. والحال أن هؤلاء السادة لم يكونوا في يوم من الأيام عارفين بخفايا الواقع السياسي بتونس لا قديما ولا حديثا. بل هم يعيشون في الأوهام، ويرغبون في أن يعيش الآخرون في الأوهام، ويصدقون أكاذيبهم وادعاءاتهم أيضا.
صحيفة العرب