كثيرون هم الذين “يبشّرون” الآن، خصوصا في عالمنا العربي، بـ”موت الشعر”.. سندهم في ذلك أن الناس لم يعودوا يقبلون على قراءته أو سماعه مثلما كان حالهم في الزمن القديم، أيام كان الشعر زهرة المجالس والعكاظيات، ونجمة المهرجانات والاحتفاليات الكبيرة، وأيام كان الشاعر سيدا في قومه، به يستعينون للرفع من شأنهم، وبكلماته يهتدون لمعرفة واقعهم، وفك ألغاز الحياة والوجود.
سندهم الآخر أنك حين تدخل مكتبة من المكتبات بما في ذلك الكبيرة منها، فإنك تلاحظ أن الجناح المخصص للشعر غالبا ما يكون في مكان قصي، أو في زاوية معتمة لا يهتدي إليها أحباء الشعر إلا بمساعدة من العاملين فيها.. ثم إن الشعراء في زمننا الراهن، بحسب رأيهم، باتوا يفضلون الانزواء في عالمهم الخاص، محتمين بذواتهم بحيث أصبحت قصائدهم صدى له ولها.
ويضيف “المبشرون بموت الشعر” أن الرواية طغت الآن على كل فنون القول فما عاد الشعر يستهوي الناس، أو يثير اهتمامهم. لذلك انصرفوا عنه غير آسفين. وظني أن هؤلاء السادة وقعوا ويقعون في خطأ جسيم.
يساندني في ما قلت المبدع المغربي الراحل عبدالكبير الخطيبي الذي ردّ على الذين طرحوا عليه السؤال التالي: من يقرأ الشعر الآن؟ وأين حضوره بين فنون القول؟ قائلا “اطمئنوا أيها السادة. الشعر لم يمت. فمنذ زمن بعيد انسل الشعر في غفلة من الجميع إلى مجالات أخرى من اللغة، ومن الفنون الأخرى”. ويضيف عبدالكبير الخطيبي “منذ زمن بعيد، وبعيد جدا، أصبح الشعر سريّا. والدليل على ذلك أنه أصبح يسكن الأعمال الكبرى في الأدب الكوني. وهو في قلب النثر بمثابة القنديل الذي يضيء عتمة الكهف”.
الشعر تمكن منذ أن شرع البعض في “التبشير بموته” في تطوير “أسلحة صموده وانشقاقه الإيجابي” ضد اللغة الرسمية الجافة، والسطحية التي تروّجها وسائل الإعلام، والأحزاب الفاقدة للعمق الثقافي والفكري
وأعتقد أن عبدالكبير الخطيبي كان محقا في إطلاق مثل هذا الكلام. فالشعر موجود وحاضر بقوة في أعمال روائية عظيمة مثل “أوليسيس” جيمس جويس الذي بدأ مسيرته الأدبية شاعرا، وفي جل أعمال ويليام فوكنر الذي كان قد كتب في سنوات شبابه العديد من القصائد البديعة، وفي “تحت البركان” لمالكون لاوري الذي كان شاعرا هو أيضا. كما نجده في نثر فرانز كافكا، وتوماس مان، ولوي فارديناند سيلين، وكارلو إيميليو غادا، وخورخي لويس بورخيس. وتبدو رواية “مئة سنة من العزلة” لغبريال غارسيا ماركيز أو “بادرو باراما” شبيهتين بتلك القصائد الملحمية العظيمة التي كتبت في زمن الإغريق.
والشعر حاضر أيضا في لوحات وتماثيل ورسومات الفنانين الكبار منذ العصور القديمة وحتى هذه الساعة. كما هو حاضر في السينما، وفي الموسيقى، وفي الرقص، وفي صمت الحكماء أمام محن العالم، وتقلبات التاريخ، وغطرسة الطغاة وأعداء الكلمة الجميلة والحرة.
ويرى عبدالكبير الخطيبي أن الشعر تمكن منذ أن شرع البعض في “التبشير بموته” في تطوير “أسلحة صموده وانشقاقه الإيجابي” ضد اللغة الرسمية الجافة، والسطحية التي تروّجها وسائل الإعلام، والأحزاب الفاقدة للعمق الثقافي والفكري.
لذلك لا يمكن مواجهة “الخراب” الذي يهدد اللغة العربية راهنا، والذي ازداد استفحالا بسبب تنامي الأصوليات التي شرّعت “ثقافة الموت” إلاّ بالشعر. كما أن الرواية العربية لن يكتب لها النجاح والانتشار والصمود أمام الزمن إلاّ عندما يكون فيها الشعر مضيئا مثل قنديل في الظلمة.