قول المثل الإنجليزي “لا تستطيع أن تعلم كلبا عجوزا حيلا جديدة”. يستخدمونه لوصف الإنسان الذي تعوّد أكثر من اللازم على ما يعرفه. التوقف عن التعلم مظهر من مظاهر الجمود. قد تقدم حجة الاستقرار لمحاولة التملص من تهمة الجمود. قد تقدم حجة الهدوء أو الحكمة أيضا. لكن حتى مقدم هذه الحجج يدرك أنها أبعد ما تكون عن الحقيقة. الجمود في مخيلتنا مظهر من مظاهر الشيخوخة.
هكذا كان الحال لحد وقت بسيط مضى. اليوم تبدو الأمور مختلفة.
انفتحت شهية كثيرين للتعلم. البعض بالغ في التعلم إلى درجة التحول إلى بهلوان. لكن الأغلبية تدرك أن تلك العادات القديمة الرافضة للتجديد والتغيير ما عاد لها من مكان في عالمنا المتغير.
في قلب التعلم الجديد هي الأدوات التكنولوجية. الكمبيوتر الشخصي كان بيدق البدء في شطرنج التحديث المعقد، لكن الهواتف الذكية (والكمبيوترات اللوحية) هي الوزير الذي صار يتقن كل الحركات تقريبا. المعرفة معك في جيبك طوال الوقت، ومنها يأتي إغراء التعلم.
الأولاد والشباب يستخدمون هذه التكنولوجيا كتحصيل حاصل. من الصعب عليهم تخيّل العالم من دونها. لكن لكي تدرك كم أحدثت هذه التقنيات من تغييرات في حياة الناس يكفي أن تنظر إلى الطريقة التي يتعامل بها كبار السن مع هواتفهم الذكية والحماسة التي يبدونها لها. لا تنخدع ببطء الاستخدام، فهذا مرتبط بالعمر. البطء يكمن في العضلات التي تتحكم في الأصابع لكن العقل على سرعته. كل مرة أرى عجوزا يتصفح هاتفه أحس أنه في سباق وكأنه يقول “أريد أن أعوض ما فاتني”. سنتردد كثيرا في استخدام المقارنة اللفظية بين الكلب والعجوز في ثقافتنا لاعتبارات معروفة، لكن عجوزنا يتعلم حيلا جديدة كل يوم.
التقدم في السن هو أسر الطبيعة لأجسامنا. تكبر في العمر فيتباطأ جسدك، بينما تبدو الحياة سريعة من حولك. الحديث عن حكمة الكهول هو جائزة الترضية التي لا يعرف كبار السن أين يصرفونها.لكن التكنولوجيا تسعى إلى تحريرهم على طريقتها. كانت الإنجازات التكنولوجية الميكانيكية هي أول الغيث. من الكرسي المتحرك إلى المصعد، وسبقتهما النظارات والعكاز بقرون. ثم جاءت الإنجازات الإلكترونية الأولية: سماعة الأذن والراديو الترانزيستور والتلفزيون. هل لاحظتم شغف الكهول في الاستماع إلى الراديو والأخبار أو حرص عجوز البيت على عدم تفويت موعد المسلسل التلفزيوني المدبلج؟ عثرات التكنولوجيا الأولى بتصميم ريموت كونترول معقد يحتاج “شهادة قيادة” لمعرفة كيفية التحكم فيه لم تحل دون إقبال كبار السن على التلفزيون. من يريد العودة للملل من عمل اللاشيء أو الصراع مع حجم الخط في كتاب مطبوع؟
في البدء كانت ردة الفعل سيئة من الهواتف المحمولة. شاشات رديئة النوعية وأزرار تعصى على يد الشاب، فكيف بأصابع العجوز المرتعشة. بعض الحلول سهلت الأمر مثل تخزين الأرقام. لكن الهاتف بقي هاتفا لإجراء المكالمات. كان على كبار السن انتظار قفزة تكنولوجية جديدة.
ثم جاء الهاتف الذكي. الهاتف ما عاد هاتفا، للجميع بالطبع، ولكنه بالخصوص أكثر فائدة لكبار السن. استماع لأغان قديمة من يوتيوب. راديو من تطبيق للبث المباشر. قراءة الأخبار مع تغيير حجم الحرف. تذكير بالمواعيد. ألبوم صور الذكريات. تطبيقات وتطبيقات. صاروا خبراء بالبرامج التي تمرر المكالمات المجانية عبر العالم وترسل وتستقبل النكات ومقاطع الفيديو الطريفة. والأهم مرونة بالحركة لا يعرفها أيّ جهاز آخر وقدرة استثنائية على تحمل صدمات السقوط والاصطدام بالأرض.
أستطلع آراء بعض من ألتقيهم ممن عبروا منتصف العمر. الشيخوخة ما عادت مخيفة. يتم التعامل معها بأريحية أكثر مما كانت عليه من قبل. ثمة قبول لها كمرحلة عمرية أكثر مما كان عليه الحال من قبل. التطور في القطاع الصحي كان عاملا مساعدا. لكن التقنيات، وخصوصا التقنيات الحديثة، كان لها الأثر المطمئن. فأنت لا تعيش في عزلة عندما يتقدم بك العمر ولا تحتاج أن تجامل أحدا على مقهى للهروب من الوحدة ولا مضطرّا لقبول ما يمليه عليك أبناؤك وبناتك. هذه حرية مكتسبة في عالم اليوم وفّرتها التكنولوجيا.
هذه تكييفات تقنية للقضية الأساسية وهي نوعية الحياة التي نحياها. كل ما يقال عن جمال العصور الماضية فيه انتقائية كبيرة ووهم ونوستالجيا ساذجة في كثير من الأوقات. الحياة التي نحياها هذه الأيام، وخصوصا كبار السن منّا، هي الأفضل ربما عبر التاريخ. هذا تكييف ثقافي ومعرفي نحتاج أن نهتم به وأن نؤكد عليه لكي نتواصل معه بأريحية وإيجابية ضرورية.
الكتابة للشباب مهمة. لكن الكتابة لكبار السن مهمة أيضا. هؤلاء ما زالوا يقرأون.