رأى الفنان الصيني زاو ووكي (1920-2013) النور في بيكين، في أسرة متعلمة ومثقفة، تنحدر من سلالة سونغ، بدأ الرسم في سن الرابعة عشرة، متوسلا بالتقنيات التصويرية الصينية التقليدية، ثم انتقل إلى التقنيات الغربية والرسم الزيتي، ولكن ذلك لم يُلبِّ تطلعه إلى فن يعبّر عن حساسيته، فتوجه إلى الفن الحديث، ولتحقيق مطمحه الفني سافر إلى فرنسا عام 1948، في وقت كان فيه “الفن الحي” يشهد تحوّلات عميقة.
وسرعان ما حاز أسلوب زاو ووكي الشبيه بأرجل ذبابة تدب على القماشة إعجاب الشاعر والرسام هنري ميشو، ولكن التحوّل الجذري كان عقب زيارة أولى إلى سويسرا عام 1951، اكتشف فيها بول كلي اكتشافا أذهله وأوقعه في شباك التجريدية، فصاغ لوحته الشهيرة “عبور المظاهر”، ثم زيارة ثانية إلى الولايات المتحدة عام 1957، التقى خلالها بأنصار التعبيرية التجريدية عزّزت ميله إلى التجريد وبحثه الدائم عن فضاء أرحب، ولكن دون أن يغادر الفن الصيني ذهنه، ذلك أنه غالبا ما كان يستند إليه طوال مسيرته ليطوّر أسلوبه، ويجعله متفردا، شاعريا، رقراقا، ودراميا.
استقر زاو ووكي في حي مونبرناس، الذي كان في تلك الفترة مركزا للتيارات الفنية والأدبية، بجوار الفنان الإيطالي الأصل جاكوميتي، وكانت أعماله آنذاك موزعة بين الثيمات الصينية والتقنيات الغربية، بشكل لم يمنع النقاد من تصنيفه ضمن المدرسة الفرنسية، ولكنه ما لبث أن انتقل إلى التجريدية كما أسلفنا، ثم إلى اللاشكلية، وعلى غرار الفنانين التجريديين الأميركان، كان يرسم على الجدار أو على الأرض، في مساحات لا تني تتسع، وكأنه لا يريد أن يضع لنفسه حدّا معينا.
في تلك اللوحات الضخمة، التي رسمها بحركات عريضة وألوان مشوشة، كان زاو ووكي مسكونا بولعه بالشعر والموسيقى، حتى فاقت استلهاماته ارتباطه الجغرافي، وصار لا يتقيد بمدرسة ما، بل يتنقل ما بين التقليد والجديد، الواقعي والثوري.
زاو ووكي كان مسكونا بولعه بالشعر والموسيقى، حتى فاقت استلهاماته ارتباطه الجغرافي، وصار لا يتقيد بمدرسة ما
وانبنت علاقة زاو ووكي بالعالم الخارجي عبر الاكتشافات والرحلات واللقاءات المثمرة، لا سيما مع الشاعر هنري ميشو والملحن إدغار فاريزن ما جعل الشعر والموسيقى حاضرين بشكل مستمر في أعماله، ينجذب إليهما كقوتين ضروريتين لعملية الخلق.
وكانت الموسيقى ترافقه دائما أثناء عملية الخلق، ولها في حياته مكانة خاصة، فهي التي تلهمه وتوفرّ له رغبة الإيقاع والحركات التي تسكن كل لوحة من لوحاته، ففي لوحته “تحية إلى إدغر فاريز” (وهو ملحن أميركي متفرنس، يعتبره النقاد أحد آباء الموسيقى الإلكترونية) يكثف ووكي عمليات القطع والمباغتة البصرية، في شكل دوامة من الخطوط في وسط اللوحة، وملمح حجري أسفلها، ومظهر لبني خفيف أعلاها.
وإذا كان ووكي مدينا لفاريز بهذا الجانب، فإنه مدين أيضا لشخصين آخرين مثّلا حلقة مفصلية في تسجيل حضوره، ثم إشعاعه، أولهما مؤرخ الفن فاديم إليسيف مدير متحف سيرنوسكي وأحد مؤسسي المجلس العالمي للمتاحف، فهو الذي اكتشفه عام 1947، أثناء رحلة قادته إلى الصين، وعرّف أهل الفن بتجربته، والثاني هو الشاعر ورسام العلامات هنري ميشو، وكان قد أعجب بلوحاته وكتب عنها، وزاد على ذلك أن سعى إلى تقديمه إلى بعض أصحاب أروقة الفنون، إلى أن احتضنه بيير لوب في الرواق الذي يحمل اسمه واسم أخيه التوأم إدوار.
ويركز متحف الفن المعاصر الذي يعرض للفنان الصيني-الفرنسي حتى مطلع العام القادم معرضه الاستعادي “الفضاء صمت” على البعد الكوني لفن زاو ووكي، وعلى مكانته ضمن كبار الفنانين في القرن العشرين، لذلك اختار أربعين لوحة ذات أحجام كبيرة، من بينها مجموعة رسومات بالحبر أنجزها ووكي عام 2006، ولم يسبق عرضها إطلاقا، إلى جانب لوحات معدنية وأخرى مائية، وتتميز بكونها لا تحيل إلى أي اسم أو تيار، حتى صاحبُها بدا لدى عامة الزوار مجهولا، رغم أنه كان علما بارزا، لا لتجنسه وإقامته في باريس فحسب، وإنما أيضا لما شهده النصف الثاني من القرن العشرين من تبادل فني بين آسيا والغرب، عندما شكل الفن والثقافة الآسيويان ما يشبه الموضة في تلك الفترة.
وينطبق هذا على الفكر الطاوي والديانة البوذية، مثلما ينطبق على فن الخطّ، مع حضور بارز لبعض الأسماء، أمثال ووغوانشونغ، وشو تيه شون، ووالاسي تبنغ، إلى جانب زاو ووكي طبعا.
لقد كان زاو ووكي بشهادة النقاد فنانا عالميا، ولكن فرص تناول أعماله بالنقد لإبراز تنوعها وتمازج عناصرها وتنافذ لقاحاتها لا تزال نادرة في الساحة الفرنسية.
صحيفة العرب