Uكنت لمّا أزل في الصفحات الأولى من رواية بختيار علي “آخر رمانات العالم” عندما رددت عبارتي الأثيرة: “إن من الرواية لسحرا”. وكنت كلما تقدمت في قراءة الرواية، أستعيد إشارة المترجمين ابراهيم خليل وعبدالله شيخو في تقديمهما للرواية، إلى ما قال فيها الناقد الألماني شتيفان فايدنر: “قنبلة بكل معنى الكلمة”. بنى بختيار علي روايته في عشرين وحدة سردية، وبدأها بأسطورة يعقوبي صنوبر الذي تطير العصافير، أو يهطل مطر، أو تتهاوى أشجار، حين يكذب. ولن تفتأ الأسطورة تتقد في الرواية شخصياتٍ وأحداثاً وفضاءات وأزمنة. وقد تولى مظفري صبحدم السرد منادياً الحكاية والحكواتي في التراث السردي. ومن ذلك أنه يخاطب القراء مباشرة كل حين، مذكراً أنه في رحلة بحرية، سيتبين أنه يقصد فيها لندن (الغرب /الآخر) ليلحق بابنه سرياسي.
منذ واحد وعشرين عاماً اعتقل مظفري، وكان عمر ابنه أياماً. وها هو هذا الذي كان مقاتلاً في البيشمركة، في بداية الرواية قد خرج من السجن في الصحراء بتدبير من يعقوبي الذي مسح اسمه من كل مكان، فبات عدماً، ولا يصلح للعيش في الخارج، لذلك عليه أن يلازم يعقوبي في قصره الذي اختاره منفى ومعتزلاً. ومن هنا، سيبدأ سؤال الحرية يتقد في الرواية. فمظفري لا يعرف ماذا يصنع بحريته بعد السجن، ويعقوبي يقول: الحرية تقتلنا إن لم نكن حذرين، مشبهاً الصحراء بالسياسة: كلتاهما أرض مجدبة. وقد علّمت التجربة مظفري أنه ثمة حالتان لا يحتاج فيهما السجين إلى رقابة، الأولى: ألا يكون للحرية أي معنى خارج الأسوار، والثانية: أن يشعر بالحرية في سجنه، ومظفري عاش الحالتين. وفي نهاية المطاف، ليست الحرية لمظفري غير بادية لا متناهية، ولا يمكن فصلها عن الوهم.
في مركز رعاية الأطفال المعوقين الذي أسسته منظمة أجنبية، يعثر مظفري على ابنه سرياسي الذي ستأخذه المنظمة إلى لندن للاستشفاء مع من اختارت ممن شوتهم القنابل والغازات الكيميائية في الوطن: مركز النحن /الذات. وفي هذا الشطر الأخير من الرواية، وجدت نفسي أنادي رواية أحمد سعداوي (فرانكشتاين في بغداد) التي صدرت سنة 2013، بينما صدرت رواية “آخر رمانات العالم” بالكردية سنة 2003، وتُرجمت إلى الفارسية والألمانية.
يرى مظفري ابنه بين أولاد بلا أيد ولا أرجل ولا رؤوس، تمزقت أجسادهم، وأعادت يد رتقها بصورة ما، فبدوا مكومين بعضهم فوق بعض، كأن رأس أحدهم ملصق بجسد آخر، وعيني هذا في رأس ذاك، وأنف هذا في وجه ذاك، بل لكأن يداً خفية قطعت هذه المخلوقات، ثم أعادت تركيبها بشكل اعتباطي، فصار الكائن مركباً من آلام القطع المأخوذة من آخرين. وهكذا تبدو نواة رواية سعداوي كأنها قائمة في رواية بختيار، فهل يكون اللاحق قد اطلع على رواية السابق؟ أم تُراه الواقع العراقي – وبختيار من كردستان العراق – هو ما فجّر التخييل في الروايتين، وجعلهما تتقاطعان في رسم وحشية الحروب التي ابتُلي بها العراق؟
الأخوة الثلاثة
تسبق حكاية سرياسي هذا حكايتي سرياس الأول وسرياس الثاني اللتين تشتبكان بحكاية بحث مظفري عن ابنه، وبحكايته هو، وبحكاية يعقوبي التي ستنجلي عن أن السرياسين الأول والثاني هما ولداه غير الشرعيين من أرملة عاشرها أثناء الثورة. وإذا كانت الرواية ستتلغز بأخوة السرياسات الثلاثة، ففي الختام تجلو أنهم لم يكونوا إخوة. غير أن مظفري يدفع بذلك إلى واحدة من الإشارت الباهرة للرواية، إذ يقول: ” لقد كنا غرقى أبديين في كون مجازي حيث يجب أن يوجد بين الإنسان والإنسان شيء أعمق من الأخوة والأبوة والصداقة والمحبة المألوفة”. والسرياسات الثلاثة إذن “نغول” ولدوا في ليالي الثورة المظلمة، وهم بلسان مظفري أولاد العالم كله، ويعد أنه سوف يكرس نفسه لهم، وينفي أن يكون من حقنا أن نطالبهم بشيء. بل إن مظفري في الختام لا يرى في يعقوبي غير انعكاس لصورته هو، بل يرى أنهما كانا شخصاً تجزأ.
يجعل مظفري من شخصية يعقوبي تعلّة لتعرية الثورة الكردية التي يسميها أحياناً الانتفاضة، فيذهب إلى أن يعقوبي كغيره من القادة يمتلك عشرات المنتجعات، ويعيش عيشة الباشوات، إذ استولى ورفاقه بعد النصر على كل شيء، واشترى حتى الشعراء والشاعرات والنحاتين والنحاتات والمهندسين وأئمة المساجد. وعلى الرغم من ذلك، فيعقوبي هو من يطلب من مظفري أن يعلمه كيف يعيش بعيداً عن السلطة والثروة والنساء. لكن مظفري في محبس يعقوبي يرى نفسه أسيراً، ويجأر: أنا لا أحد، أنا خيال، أنا عدم، حتى إذا حضر إكرامي كيو، أطلق سراح مظفري هادراً: الثورة كذبة كبيرة، والمتنفذون والأحزاب أقوى من الطبيعة، ويعدّ مظفري المحظوظ الوحيد في الثورة، لأنه كان ثائراً بدون أن يثور!
تتواصل التعرية حين تبرق في الرواية الحرب الأهلية الكردية التي هاجر على إثرها الكاتب إلى دمشق ومنها إلى ألمانيا. ففي الرواية أن الجولة الثالثة من هذه الحرب حولت بيوت مسؤولي الأحزاب العسكريين إلى ساحات حرب و”مقاتلو البيشمركة يتجمعون أمام منازل السياسيين وحول الفنادق ومحلات المشروبات الروحية، وفي أحيان كثيرة حول أوكار المومسات قريباً من الأماكن التي ينام فيها قادتهم”.
يبدأ الرمز الأكبر في الرواية يشعّ موجعاً وواعداً منذ عتبتها الأولى: العنوان. ومع سرياسي الأول والشقيقتين لاولاوي وشادرياي تبدأ تجليات هذا الرمز، إذ يدفن سرياسي تحت الرمانة عهدَ الأخوة الذي وقعه مع الشقيقتين بالدم. وفي الحكاية/ الأسطورة أن سرياسي دفن عهداً آخر تحت رمانة أخرى تقع في أبعد مكان من العالم. والرمانة الأولى مرآة للأخرى التي سماها سرياسي “آخر رمانات العالم”. وحين أصيب في صراع مع الشرطة طلب من رفاقه أن يدفن تحت ظل آخر رمانات العالم، حيث يمكنه أن يرى كل شيء. وقد سمّى تلك الرمانة شجرة الكوارث الأرضية، بينما سماها رفيقه في البحث عنها، الأعمى نديمي شاه زادة، بشجرة الرؤيا، وسماها رفيقه الآخر محمدي دلشوشة بشجرة الإلهام أو شجرة قربنا من السماء، وقد بلغ الثلاثة مرامهم على قمة جبل في يوم “العماء” وامتلأوا بالغبطة والسلام.
يعود بنا محمدي دلشوشة إلى بداية الرواية مطلقاً رمزاً آخر في الرواية. فهذا الشاب ذو القلب الزجاجي، يودي به عشق الشقيقتين لاولاوي وشادرياي. وقد صنع بنفسه مفاتيح الحياة والموت والحلم والحقيقة والعشق، فتحولت حياته إلى قصر من زجاج هش. ولما رفضت الشقيقتان هذا العاشق الذي سيغدو شقيقهما، طلبتا منه الرمانة الزجاجية فاعتذر، لأنها رمانة الأسرار، وليست له، وقد رأى في منامه شجرة تُدعى آخر رمانات العالم. كما رأى رياح الليل تنشر الغبار القاتل الناتج من تحطم الزجاج في العالم. وفوق رأسه تنهار السماء الزجاجية ليلاقي موتاً زجاجياً. وسيتوج الزجاج الرواية في منتهاها، بينما يؤكد مظفري أن ليس لحكايته نهاية قائلاً: “إنها حكاية أولاد من زجاج عاشوا في وطن من زجاج، في زمن من زجاج”. وفي هذا المآل الذي يتحدث فيه مظفري عن الألم الكوني، وعن تكريس الإنسان نفسه للإنسان، تقف آخر رمانات العالم حلماً للتفاهم بين البشر، إخوةً وأعداءً.
لقد ظهرت هذه الرواية بعنوان آخر هو “خر رمان الدنيا” في ترجمة أخرى لغسان حمدان. أما المترجمان شيخو وخليل، فقد رأيا الرواية تأسيساً للواقعية السحرية في الأدب الكردي. ولأني أكبر حماسة منهما للرواية، لأشفق عليها من أي عرض أو نقد، فهي منذورة للقراءة. وبما أن أهل مكة أدرى بشعابها، فشيركو بيكس هو الأدرى إذ يقول “منذ مائة عام لم يحظ الأدب الكردي بشخصية مثل بختيار علي”.
www.independentarabia.com