سوف أُضطر في هذه السلسلة، ولأسباب واضحة، إلى العودة إلى بعض الشخصيات التي كتبت عنها في هذه الزاوية غير مرة. أحدها عالم مصر ومؤرخها ومفسر كيانها، جمال حمدان. لكن أنَّى لي أن أعرف جمال حمدان أو أن أعرِّف به كما فعل الصحافي الكبير كامل الزهيري. كنت أعتقد أنه لا يجوز للصحافي أن يعبّر بمبالغة عن إعجابه بصاحب موضوعه، لكنني وجدت أستاذاً من طبقة كامل الزهيري، يتجاوز كل الضوابط والقواعد في الكتابة عن حمدان: «أول مرة بدا لي جمال حمدان يشبه عوداً من أعواد البردي. ممتداً في استقامة وطموح إلى أعلى. رشيقاً بلطف. فوق رأسه تاج من الزهر المتوهج من شدة الذكاء. ولست أظن أن عالماً أو أديباً أو فناناً اجتمعت له مثل هذه المواهب السمعية والبصرية كما اجتمعت عند هذا العالِم الأديب».
إلى جانب كونه من أبرز علماء الاجتماع، كان فناناً تشكيلياً وموسيقياً وصاحب أسلوب. وعندما يرسل مقالاته إلى المجلات، كان يكتبها بخطٍ في منتهى الأناقة والجمال بحيث يخلط العلم المجرد بالفن المجرد. وهو بلا شك من تلامذة النيل أولاً، فأينما قرأت، تجد تعابير مثل «ضبط إيقاع النهر»، أو عندما يصف موقع القاهرة عند ملتقى الدلتا بالوادي يقول: «عند خاصرة النهر».
لم ينظر حمدان إلى الجغرافيا كمساحة من الأرض بل طرح الأمكنة على أن لها روحاً وفلسفة وحكمة من حكم الخلق. يقول حمدان عن مصر: «هي بالجغرافيا تقع في أفريقيا وتمتد بالتاريخ إلى آسيا، متوسطة بعروضها، موسمية مياهها وأصولها. هي في الصحراء وليست منها، إنها واحة ضد الصحراء، بل ليست بواحة وإنما شبه واحة، إنها فرعونية بالجد، عربية بالأب.
بجسمها النهري قوة بر، وبسواحلها قوة بحر، أي تضع قدماً في الأرض وقدماً في الماء. بجسمها النحيل تبدو مخلوقاً أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح، تحمل رأساً أكثر من ضخم. تقع في الشرق وتواجه الغرب، وتكاد تراه عبر المتوسط، تمد يداً نحو الشمال وأخرى نحو الجنوب. ولهذا هي قلب العالم العربي، واسطة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الأفريقي. إنها سيدة الحلول الوسطى والوسط الذهبي».
يقول كامل الزهيري الذي عرفته مقتراً في كل شيء، يقول بكل انبهار عن جمال حمدان: «يضرب بحرّية في كل العلوم، يربط الأرض بالناس والحاضر بالماضي، والمادي باللامادي، والعضوي بغير العضوي، ويكاد يتعامل مع كل ما تحت الشمس وتحت الأرض».
إلى اللقاء.
الشرق الاوسط