خلال العام 2018 الذي يطوي أوراقه بعد أيام قليلة، نشر الروائي رشيد بوجدرة كتابين باللغة الفرنسية، الأول هو رواية بعنوان “السلب” صدرت بباريس عن منشورات غراسي وفي الجزائر عن دار صغيرة اسمها فرانتز فانون، كما نشر في ذات الدار كتابا نقديا سماه “مهربو التاريخ” وفضل أن يعطيه عنوانا مختلفا هو “زناة التاريخ” في ترجمته إلى العربية والتي قام بها الكاتب نفسه.
كان القارئ الجزائري وعلى مدى نصف قرن وأكثر، ينتظر بلهفة روايات رشيد بوجدرة، منذ أن وقّع أول رواياته له وهي الأكثر شهرة “التطليق”، في العام 1969.
عُرف الروائي رشيد بوجدرة بالكتابة الجريئة والتي لا تخاف من اختراق المحرمات على اختلافها: العرقية والجنسية والسياسية، كانت رواياته حدثا أدبيا حقيقيا، على الرغم من أن بعضها كان ممنوعا في مرحلة معينة إلا أنها كانت تقرأ وتتداول بيننا نحن الطلبة في الأحياء الجامعية بشكل يشبه الممنوعات، كان القراء ينتظرون رواياته بشغف، ينشر بمعدل رواية كل سنتين، ومع صدور رواية لبوجدرة يثار النقاش الجاد ويحتفل به على المستوى الجامعي والصحافي الرسمي وغير الرسمي.
وتشكلت صورة ذكية لرشيد بوجدرة الروائي والمبدع في مخيال العامة، صورة “الملعون” بمعنى الذي يلعب بالنار، و”الملعون” هنا تعني الكاتب الذي يزعج ويقلق حراس الدين وحاشية السلطان.
عاش رشيد بوجدرة مجده الأدبي في مرحلة المنع والرقابة، سنوات ملاحقة من مجموعة شيوعيين مثقفين من أمثال الشاعر والأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري بشير حاج علي أو عبدالحميد بن الزين أو السينمائي المثقف والسكرتير الأول لحزب الطليعة الشيوعي الهاشمي شريف أو المسرحي محمد بودية وغيرهم…
ولكن يبدو أن رشيد بوجدرة ضيع نوعا ما البريق الذي كان يميزه كمثقف نقدي وروائي من العيار الثقيل، مع حلول مرحلة التعدد المتوحش للقنوات الإعلامية المبتذلة التي تنصّب للأقلام وتتعشى على هشاشتهم وتوجّه تصريحاتهم حسبما يرضاه الرقيب والنسيب والحسيب، وأيضا مع تعدد الأحزاب السياسية المرتزقة وطغيان الفوضى السياسية واختفاء المعارضة اليسارية من الساحة تماما، وظهور جيل جديد من الكتاب والمثقفين بأخلاقيات أخرى وهواجس مختلفة ليست كتلك التي كان يتميز بها الجيل الذي احتفل ببوجدرة، وله طموحاته وخيباته، واختفى ألق الشيوعي الذي كان نبيا في زمن القهر.
وفي هذا الجو الملغوم، والمأزوم ركز الإعلام الجزائري وكذلك شبكات التواصل الاجتماعي على كتاب “زناة التاريخ” لرشيد بوجدرة، وأنا هنا لا أريد أن أقيّم هذا الكتاب، لكني أقول إنه أقل بكثير من قيمة روايته “السلب” التي تم تجاهلها وهي النص الذي طرح فكرة خطيرة وهي “الفساد” السياسي والاجتماعي في الجزائر المستقلة.
والمؤسف أن رواية “السلب” كانت ضحية صاحبها أولا، فرشيد بوجدرة انساق مع لعبة الإعلام الأصفر ودخل في معركة مع معسكر من سماهم بـ”زناة التاريخ” والذين ذكرهم بالاسم من المثقفين والأدباء من أمثال: بوعلام صنصال وكمال داود وياسمينة خضرا والمخرجين السينمائيين أحمد راشدي ومحمود زموري.
كما أن خرجات رشيد بوجدرة في المرحلة الأخيرة وتصريحاته وهو يبرر “إسلامه” ويعلن أمام الطلبة ردا على سؤال منهم بأنه “مسلم” وأنه ليس بـ”ملحد”، هذه النقاشات السخيفة ليست في مستوى رمزية رشيد بوجدرة النقدي التنويري الذي تربينا على نصوصه، وكان بإمكانه تفاديها، فلا أحد مخول للسؤال عن “دين” الآخر، فالله وحده من يسأل عن الإيمان، وغير ذلك غير مقبول، لا ثقافيا ولا دينيا.
نقلا عن صحيفة العرب