السجع والإيقاع والقوافي والأوزان تعطي اللغة العربية أبعاداً موسيقية وغنائية وزخرفية تميزها عن كثير من اللغات الأخرى. بل إن بعض اللغات الأوروبية استعارت منها. الأدب العربي، لا سيما كتاب الأغاني ومقامات الهمذاني والحريري يغص بالأمثال عن ذلك. حفلت مجالس الخلفاء والأمراء بأمثلة كثيرة منها. ولعبت فيها الجواري أدواراً متميزة فيها. كان منها هذه الأغنية التي غنتها «دنانير» للخليفة هارون الرشيد:
قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت المنام
كي أستريح وتنطفي نار تؤجج في العظام
مضنى تقلبه الأكف على فراش من سقام
أما أنا؟… فكما علمت فهل لوصلك من دوام؟
طرب الخليفة لذلك فقال لها: أحسنت غناء ما تعلمت. زيدينا طرباً. فتؤدت أطرافها وواصلت غناءها قائلة:
قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الهجوع
كي أستريح وتنطفي نار تؤجج في الضلوع
مضنى تقلبه الأكف على فراش من دموع
أما أنا؟… فكما علمت فهل لوصلك من رجوع؟
اعتز الخليفة لكلماتها وألحانها فقال: أحسنت غناء ما تعلمت، فزيدينا طرباً. فتمايلت واستأنفت الغناء:
قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الرقاد
كي أستريح وتنطفي نار تؤجج في الفؤاد
مضنى تقلبه الأكف على فراش من سهاد
أما أنا؟… فكما علمت فهل لوصلك من معاد؟
أعجب هارون الرشيد بغنائها فدعا الحاجب إليه، وقال: أعطها ألف الف دينار!
كانت هذه المقطوعة البارعة أغنية غنتها أم كلثوم في أحد أفلامها. وبرعت فيها دنانير في إعادة الأبيات، ففي الإعادة إفادة ولكنها بإحساسها المرهف غيرت القوافي فللتكرار أسرار. هذا اللعب بالقوافي من بدائع الفن العربي. نرى أمثلة عجيبة منه في المواويل والمقامات الشعبية. فمن أساليب قارئ المقام (والمقامات العراقية يقال لها تقرأ ولا تغنى) أن يقرأ شيئاً باللغة الفصحى ثم ينتقل فيكرر الموضوع ولكن باللهجة العامية، كما فعل قارئ المقام الشهير محمد القبانجي:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وقومي وإن شحوا علي كرام
ما إن انتهى من ذلك حتى حول ذلك المعنى إلى العامية فقال:
بلادي فإن جارت وإن عزت علي
كرام أهلي ولو شحوا علي
جريدة الشرق الأوسط