واضح جداً، أن الأثر الذي نشره وباء “كورونا” على المسلك الاجتماعي كبير، بل كبير جداً، لدرجة أنه ما كان يمكن تصوّره. فإحدى الطرق الأنجح لمحاربة “كورونا” هي البقاء في البيت. وبقدر ما يبدو الأمر سهلاً للوهلة الأولى فإنه أثار ويثير الكثير من الدلالات الاجتماعية الإيجابية والسلبية. فمن أعظم الخصال التي يتصف بها الإنسان قدرته على التعوّد، وهي في الآن نفسه، واحدة من أكثر خصال الإنسان إساءة إليه، في كونه يصبح عبداً لما اعتاده، وأنه متى ما صار يمارس هذه العادة بجسمه دون حاجة لعقله، تمكنت منه، وصارت جزءاً من لا وعيه. وبالتالي توجب عليه بذل جهد كبير ومُتعِب حتى يتمكن من التخلص منها، والتأقلم مع وضع جديد، ونبذ عادةٍ عاش بها ولها سنوات وربما عقوداً.
لقد كرّس ستيف جوبز “Steven Jobs” باختراعه العظيم للتلفون الذكي، وحدة الإنسان وانعزاله، وأدخل على البشرية مسلكاً جديداً، يتمثل في اكتفاء الإنسان بوحدته ومصاحبة التلفون الذكي، بمحركات البحث، ومواقع الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، مما أخذ البشر للعيش في العالم الافتراضي، وبالتالي أدى إلى ولادة “المواطن الرقمي- Digital Citizen”، المواطن المكتفي بذاته، والمتصل بفضاء العالم، والمبتعد عمن حوله، حتى صرنا نرى أسرة مكونة من أم وأب وولدين، يجلسون في غرفة واحدة، وكل منهم منشغل بتلفونه النقال، ولا شيء يجمع بينهم سوى الصمت والغربة.
ستيف جوبز اخترق المسلك الإنساني الطبيعي، حيث الحاجة للآخر، وحيث المثل الشعبي القائل: “الجنة بدون ناس ما تنداس”. فمنذ ما يزيد على العقد من الزمن، تناولت دراسات كثيرة فكرية وعلمية ونفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية أثر انغلاق الإنسان على نفسه، ومعاقرته لوحدته، وانتهت في أغلبها إلى أن هذا المسلك يضر بالإنسان أكثر بكثير مما ينفعه. لكن هذه المسلك تكرّس في العقد الأخير، حيث يولد الطفل، ليفتح عينيه أمام لعب وأغاني التلفون الذكي، وأفلام الفيديو في “الآي باد”، مما أوجد جيلاً لا يرى في الآخر الواقعي، أكثر من آخر افتراضي، وهذا صبغ البعض بصبغة العزلة، وأفقدهم قدرة التواصل الإنساني الطبيعي. فالحديث مع الآخر ومصاحبته والتمتع بصداقته ممارسة إنسانية جميلة وضرورية، صاحبت البشرية منذ اكتشفت وعرفت اللغة، وبدونها يفقد الإنسان واحدة من أهم المهارات التي يحتاجها لعيشه.
فيروس “كورونا” زلزل العالم، بخطره الصحي، وزلزله أيضاً في الحاجة لمليارات من الدولارات لمواجهته والوقوف في وجهه، وهبط بالبورصات العالمية، خلال فترة وجيزة لمستويات قياسية موجعة، وعزل دولاً عن دول، وأوقف حركة الملاحة الجوية، وتسبب في وفاة الآلاف، وترتب عليه ويترتب في كل لحظة أمر جديد يجب التنبه إليه. لكن، الوجه الآخر لـ “كورونا”، وقد يكون إيجابياً، أنه وحّد العالم، وأجبرهم على التعاون فيما بينهم بغية سلامتهم، كما أنه فرض على البشر ملازمة بيوتهم، وأعادهم بالتالي إلى حضن الأسرة والأهل، وإلى ضرورة التكيّف مع عادة جديدة تتمثل في نسج علاقة، عن طيب نفس، مع المكان والأسرة والأهل، وكأن لسان الحال يقول: ليس للإنسان في الملمات إلا الإنسان، وليس للشخص إلا بيته وأهله. صحيح أن التلفون الذكي واستخداماته مازالت متوفرة، لكن الصحيح أيضاً، أنه تحتم على الإنسان، عدم الخروج لعمله، وقضاء ساعات طويلة، في البيت، ومن غير المعقول صرف كل هذه الساعات مع التلفون أو الكمبيوتر أو التلفزيون، خاصة، والآخر على الحب والقرب والمصير المشترك.
“كورونا”، أعاد الكثير والكثير من البشر، حول العالم، إلى حضن بيوتهم ورحابة وابتسامة أحبابهم، ودسّ في الكثير من العلاقات الأسرية وأعاد إليها شيئاً من الدفء والحنان والمحبة، وهو ما افتقدته طويلاً… “كورونا”، الفيروس الخفي، الفيروس القاتل، استطاع الوقوف في وجه عبقرية ستيف جوبز! وحّد البشرية، وأجبرها على التعاون العلمي والتقني والاقتصادي والاجتماعي بغية النجاة بأبنائها، وفرض رقابة صارمة على الأسرة تجبرها بالوجود والتواصل الملموس، والعودة للحضن الإنساني.
بلاء “كورونا” عظيم، لكنه أوجد شيئاً من الوصل البشري الذي طالما شُغفنا بمحاولة الوصول إليه.
الجريدة