على صلةٍ بحديثنا أمس عن معارض الكتب العربية، نود أن نقف اليوم، سريعاً جداً، أمام كتاب شائق وجميل يطوف بنا في أشهر مكتبات العالم، أعدّه الإسباني خورخي كاربون، وهو كاتب نالت أعماله جوائز دولية. وعرّفتنا إلى الكتاب المترجمة العمانية ريم داوود، التي صدرت لها ترجمات لافتة لأعمال روائية من ثقافات مختلفة، جلّها عن «دار العربي للنشر والتوزيع» في القاهرة.
وتشي ترجمة ريم داوود لهذا الكتاب بمهارة المترجمة، ورشاقة عبارتها، التي تبدد غربتنا تجاه كتاب كُتِب بغير لغتنا، ولكنه يفعل في نفوسنا ما تفعله الكتب الفارقة التي تمسك بأيدينا نحو فضاءات ما كنا سنبلغها لولا هذا الصنف من الترجمة.
«لا توجد ثقافات دون ذاكرة»، هكذا يقول مؤلف الكتاب قبل أن يستطرد: «لكنها بحاجة إلى النسيان أيضاً». تبدو التتمة صادمة لنا للوهلة الأولى فكأنها نافية لما سبقها، هل حقاً علينا أن ننسى الثقافات؟
سيحضر هذا السؤال ونحن نقرأ هذه العبارة، لكن وطء الصدمة سيخف علينا حين نقرأ الشرح التالي الذي يليها: «بينما تصرّ المكتبات العامة على تذكّر كل شيء، تقوم مكتبات بيع الكتب بالاختيار والانتقاء والرفض والتأقلم مع الحاضر، وكل ذلك بفضل النسيان».
هو فعلاً ما تقوم به مكتبات بيع الكتب: الانتقاء، التجديد، إخلاء الأرفف من كتب قدمت لتوضع غيرها. ها هنا المعرفة تتحرك، كتب تخلي أماكنها لكتب جديدة، وعلى القديم أن يثبت جدارته بالبقاء طويلاً، ولكن ليس بصورة دائمة، وإن قُيضّ له ذلك فإنه سيكون في مكان آخر: المكتبات العامة.
إحدى انطلاقات الكاتب تبدأ من أثينا. إنها انطلاقة لافتة حقاً. هنا بوسعنا الوقوف عند العلاقة المركبة المعقدة بين الثقافات. ومحقاً يلاحظ أنه بالنسبة للقارئ الغربي فإن الشرق يبدأ من النقطة التي تظهر فيها حروف أبجدية غير مألوفة بالنسبة له.
ستبدو متاهة الأوروبي أكبر بالطبع كلما أوغل شرقاً، حيث اللغات التي لا يجمعها جامع بلغاته الأم. يصح القول بأن الترجمة نجحت على مر العصور ليس فقط في التقريب بين الثقافات، وإنما أيضاً في التمويه على حقيقة كبرى وتعريضها للنسيان، هي أن الكثير مما صار الأوروبي يقرأه من الثقافات الأخرى هي كتب مترجمة عن لغات هذه الثقافات. وإذ يغفل الغربيون عن ذلك تتضاعف نرجسيتهم المتحورة حول المركزية الأوروبية، وتجاهل أن ثقافة أوروبا حملت الكثير من جينات ثقافات الشرق.
لكن أثينا ليست سوى مدخل من مداخل هذا الكتاب الثري، لأنه يطوف بنا قارات العالم
جريدة الخليج