كلّما قرأنا الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883 ـ 1924) ازدادت رغبتنا في قراءته مجدداً، وكلّما أوّلنا نصوصه شعرنا بالحاجة إلى إعادة تأويلها. ولعل هذا ما يفسّر شمولية أدبه، أي قدرته الثابتة على ردّنا إلى ما نشعر به لدى قراءته وعدم توفّر أي مقاربة له إلا من خلاله بالذات.
هذا ما يستنتجه قارئ نصوص هذا العملاق التي وضعها في نهاية حياته (1922 ـ 1924)، وهي مرحلة شديدة الخصوبة في مسيرته الكتابية، واجه فيها مشاكل مادية كبيرة ومرض السلّ، وانبثقت خلالها كتابات جوهرية تحمل طابع الوصية. كتابات بقي جزء مهم منها غير مترجَم إلى لغة أخرى، قبل أن يُقدِم الباحث الفرنسي روبير خان أخيراً على نقلِها إلى الفرنسية وجمعِها في كتاب ضخم صدر عن دار Nous بعنوان «الدفاتر الأخيرة».
شذرات وشظايا
ولا شك في أن طبيعة بعض هذه الكتابات تفسّر بقاءها كل هذه المدّة باللغة الألمانية التي كتب كافكا بها، إذ تتألف من شذرات وشظايا وفقرات قصيرة مقطَّعة ومسودّات قصص غير منجّزة، ويتراوح حجم نص كلٍّ منها بين جملة وخمسين صفحة ينعدم فيها أي ترقيم، ما يجعلنا نتساءل حول الشكل الذي كانت ستأخذه لو تمكّن صاحبها من إنجازها. وإلى جانبها، نقرأ في هذا الكتاب بعض سرديات كافكا الشهيرة التي كتبها في تلك الفترة، مثل «الجحر» و«فنان جوعٍ» و«بحث عن كلب» و«جوزيفين المطربة». لكن حتى هذه النصوص تحضر للمرة الأولى ضمن احترام مطلق لمادّية مخطوطاتها الأولى وطريقة ترتيبها، أي كما تركها كافكا لدى وفاته، الأمر الذي يدخلنا إلى قلب عمله الكتابي كما كان يعيشه ويكشف لنا ميله إلى الكتابة المتشظّية التي هي سمة جوهرية وثابتة في عمله.
وفعلاً، باستثناء «الانمساخ» (1915) و«القرار» (1913) و«في مستعمرة العقاب» (1919)، نادرة هي النصوص الطويلة نسبياً التي أنجزها هذا العبقري كلياً. وعدم الإنجاز هذا، الذي يشرّع باب التأويل لجميع نصوصه، هو سلاح رئيسي لكافكا في صراعه ضد العالم، وتشكّل رواية «القصر» التي كتبها في الفترة الأخيرة من حياته تجسيداً مجازياً رائعاً له. فمن قرأ هذا العمل يعرف أن الطريق التي تقود إلى القصر تطول كلّما سار بطل الرواية عليها، وبقدر ما يقترب هذا الأخير من القصر يبتعد عنه. وبالتالي، لا بلوغ لدى كافكا لأن قارئه بالذات هو مركز قراءته وهدفه، فمن خلاله يتحدّد مصدر ذلك الشعور بالكينونة الخاص بالكاتب، وفي الوقت نفسه، نقطة إفلاته. ولهذا السبب، لا يوجد في الحقيقة تناقُض في مختلف القراءات المتوفّرة لنصوصه، علماً أن هذه القراءات بقيت عاجزة عن محاصرته كلياً والإمساك به، بما في ذلك تلك التي تقدّم بها عمالقة مثل والتر بنيامين وجيل دولوز وإدوار سعيد ومارت روبرت وراينر ستاك. ولا عجب في ذلك، فما كتبه كافكا خاص وفريد إلى حد يمكن فوراً التعرّف إليه، من دون أي مرجع خارجي، وهو ما يمنحه أيضاً طابعه الشمولي. ومن جهةٍ أخرى، كل قارئ له هو، في الوقت نفسه، جميع قرّائه، لاستحالة قراءته إلا كما يقرأ هو بالذات نفسه، وهذا تحديداً مضمون أعماله.
خطّ مكسَّر
ولفهم هذه المسألة الغامضة قليلاً، لابد من الإشارة إلى أن كافكا بلغ في كل نص من نصوصه صميم هدفه، أي إدراك القارئَ حيث لا يعود قادراً على قول أي شيء. ومن هنا عبقريته التي تكمن في عثورنا عليه، في كل مرّة، عند تلك النقطة الصامتة فينا التي يتعلّق كل ما يرويه الكاتب بها ويتعذّر علينا وضعها في كلمات، علماً أنها تشكّل مصدر اللغة. ومن هذا المنطلق، نادرة هي الكتابات التي تمكن مقارنتها بنصوصه، أي كتابات تدفع بقارئها إلى ذلك الحد من الانشداه الذي يتفكك فيه كل كلام، وفي الوقت نفسه، ينبثق عند تلك النقطة التي يتقاطر فيها كل شيء إلى قلب الكينونة. ندرة يفسّرها أيضاً المسعى الكتابي الفريد لكاتب لا يريد أي شيء، ولا يعلن أي شيء، ولا يسيّر أي رسالة في نصوصه، وبالتالي لا يقول شيئاً آخر غير ما يرويه، من دون أي خلفية أو تبطين. وهذا المسعى تحديداً هو الذي يربط في «الدفاتر الأخيرة» القصص الطويلة نسبياً بالشذرات والشظايا والنصوص القصيرة المقطَّعة وغير المنجَزة. فمع أن هذه الكتابات لا تتكّلم عن الشيء نفسه، لكنها تتشابه في المحرّكات والآليات التي تتحكّم بكتابتها، وبالتالي في اصطفافها على خطّ مكسَّر يلغي أي وجهة عامة أو مقصَد محدَّد.
أكثر من ذلك، ما كتبه كافكا يلغي نهائياً ما قد يُكتَب في سياقه وأيضاً ما لم يُكتَب. من هنا استحالة صياغة نصوصه بطريقة مختلفة عن تلك التي وضعها لها، وأيضاً إفلاتها من أي تأويل حاسم لها، ومحافظتها على نضارتها وحداثتها، وتعذّر استنفاد ما تكشفه. ومع ذلك لا يسعنا، لدى قراءة دفاتره الأخيرة، عدم مقارنة القصص التي تتضمّنها، مثل «فنان جوع» أو «الجحر» أو «جوزيفين المطربة»، برواياته السابقة، مثل «الانمساخ» أو «في مستعمرة العقاب». مقارنة يتجلى من خلالها استفحال الدعابة السوداء في هذه القصص، واقتصادٌ أكبر في الوسائل المستخدمة لكتابتها، وأسلوبٌ أكثر جفافاً أو تقشّفاً. وهذا ما يسمح لنا بالقول إن ثمّة كافكا آخر في السنوات الأخيرة من حياته يتميّز بصوتٍ جديد يطبعه مرض السلّ الذي لن يلبث أن يصرعه. صوتٌ «بلا صوت»، لأن الكاتب كان قد فقد آنذاك قدرته على النطق واضطر، للتواصل مع المحيطين به، إلى كتابة ما كان يرغب في قوله لهم على قصاصات ورق. وإذ لا يختلف هذا الصوت كلياً عن ذلك الذي يرتفع في نصوصه الأولى، أو عن الصوت الذي نصغي إليه في رواياته الثلاث، لكن يمكننا أن نستنتج في طيّاته، من دون أن نخطئ، استفحالاً ليأسٍ رضخ الكاتب إليه في النهاية. يأسٌ قاسٍ لكافكا الإنسان لكنه مفيد وناجع لعمله الكتابي، لكونه يقف خلف أسلوبه الأخير الذي شكّل الباحث والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد أحد أفضل مَن حلّل خصوصياته.
الكتابة المعاندة
ولمنح فكرة عن طبيعة هذا اليأس، نستشهد بقصة «فنان جوع»، وتحديداً بالكلمات الأخيرة التي تهمس بها شخصيتها الرئيسيةإلى حارس حديقة الحيوان: «لم أتمكن من العثور على الغذاء الذي يعجبني. لو أنني وجدته، صدّقني، لما كنت قد اختلقتُ كل هذه القصص ولكنت قد رضيتُ وسددتُ جوعي مثلك ومثل الآخرين». جملةٌ يتعذّر فيها فصل كافكا عن شخصيته القصصية، خصوصاً حين نعرف أن جميع النصوص التي كتبها ترتبط بشكلٍ وثيق بما اختبره في حياته. وهذا ما يؤكّده مترجم دفاتره الأخيرة بقوله: «لا نجد كلمة في نصوصه لا تحمل دلالة «سيرذاتية»، شرط منح هذه العبارة المعنى المفتوح الذي أعطاه لها والتر بنيامين الذي ذهب، في كتابه «طفولة برلينية»، إلى حد اعتبار العناصر الهندسية لأبنية برلين التي وصفها كافكا، عناصر تصلح أيضاً لخطّ بورتريه ذاتي له».
ولم ينفِ الكاتب الجانب السيرذاتي لكتاباته، بل أقرّ به مراراً وبطُرُق مختلفة، كما في الجملة التي نقرؤها أيضاً في دفتر «فنان جوع»: «الكتابة تعاندني. من هنا مشروع التقصّي السيرذاتي». جملة تضعنا أيضاً على درب نقطة أخرى مهمة في عمله الكتابي، ونقصد تلك المراحل الطويلة التي عاندته خلالها الكتابة واختبر مرارة العقم الأدبي، قبل أن يعود الإلهام مجدداً وتفرض هذه الكتابة نفسها كالعلة الوحيدة لاستمراره في الحياة، وفي الوقت نفسه، كمصدر خيبة متجدّدة أبداً جعلته يفكّر جدّياً ومراراً في إحراق دفاتره وأوراقه.
باختصار، تشكّل دفاتر كافكا الأخيرة فرصة ثمينة لإعادة قراءته على ضوئها، خصوصاً أنها تمنحنا للمرة الأولى إمكانية متابعة سيرورة كتابته في جميع تفرّعاتها. دفاتر تكمن قيمتها أيضاً في قوة ما تنطق نصوصها به وطريقة نطقه، وفي الطُرُق المختلفة التي ابتكرها هذا العبقري لنسج حبكة قصصها أو تعليقها داخل الزمن، من دون أن ننسى لغته الرائعة فيها، بإيقاعاتها ودقّتها، على رغم تقشّفها.
مقيّد إليك
من أقوال فرانز كافكا:
ـ لم أشعر بالألفة مع امرأة على الإطلاق، ولستُ نادماً إلاّ على استحالة العيشِ وحيداً.
ـ النهوض المُبكر مِن الفراش، هو مَا يَجعل المرء مُكتئباً تَماماً.
ـ كأن الأمر يشبه أن تقف في منتصف غرفة لا يسمح لك بالاستناد على شيء.
ـ دائماً الفكرة نفسها، والرّغبة نفسها، والخوف نفسه، مع ذلك أنا أكثر هدوءاً من ذي قبل.
ـ الكِتَابَة شَكلٌ من أَشكَالِ الصَلاة.
ـ إنّني مقيّد إليك، لا بالحبّ وحده، فالحبّ وحده لا يكفي، الحبُّ يبدأ، الحبُّ يأتي، ينقضي، ويأتي مرة أخرى، ولكنّ هذه الحاجة التي تقيّدني بالكامل إليك هي ما يبقى.
ـ ما تعودنا على أن نعتبره خيطاً فاصلاً أصبح الآن حداً، أو سلسلة من الجبال، أو على نحو أكثر دقة قبراً.
جريدة الاتحاد