بمحض المصادفة، وهي ليست دائماً خيراً من ميعاد، شاهدت حلقة تلفزيونية قديمة لصحافي عربي راحل يتحدث عن سيرة الاستاذ محمد التابعي، مؤسس، أو أحد مؤسسي الصحافة المصرية الحديثة، والكاتب الذي تتلمذ عليه محمد حسنين هيكل ومصطفى وعلي أمين، والكثيرين ممن لم ينعموا بشرف التلمذة، وقصروا عن التقليد.
وكان هذا الصحافي، باسماً، يرتدي قميصاً أصفر وعليه ربطة عنق صفراء، ويملأ الشاشة صحافة صفراء بعدما ملأ الورق لزمن طويل. يتحدث ويبتسم من طرف شفتيه علامة الاحتقار لموضوعه. يتحدث وكأن التابعي واحد من تلامذته ومريديه الذين أنكروا فضله وعلمه.
لا كلمة واحدة عن التابعي المدرسة، والاستاذ وشاغل مصر ومنشئ صحافتها الاسبوعية، بل حديث مطابخ عن التابعي الساهر والباذخ والمسافر أبداً في مصايف ومشاتي أوروبا. ومن قبيل الذم، لا المديح، تحدث عن التابعي الذي يدفع في الفنادق بقشيشاً لم يدفع مثله سواه.
ثم يبتسم بطرف شفتيه ليمنح التابعي شهادة من شهاداته فيقول: «كل هذا والتابعي لم يكن يحمل شهادة جامعية». وكرر القول. مما يعني أن سيادته يحمل شهادة جامعية. أما الذين حُرموا منها فقاصرون مثل ارنست همنغواي ووليم فوكنر ومارك توين وجبران خليل جبران.
لم يكن لدى المتحدث المتعرّق حسداً وسفهاً مبطناً، أي إحصاء عن عدد أطروحات الدكتوراه التي قدمت في مصر محمد التابعي. ولم يكن التابعي العملاق الوحيد الذي حاول ان يتسلق جثمانه بعد وفاته. فقد اشتهر بأنه كان يستحضر الأرواح لكي يكذب بها على الناس وعلى نفسه وعلى الحقيقة.
عاش أحمد بهاء الدين ومات ولم تظهر كلمة إلا في تقديره ومحبته. لكن هذا الحاسد المسكين قرر أن يسجل على نفسه أنه الوحيد الذي هجا بهاء. ولم يترك صحيفة عمل فيها، أو بئراً شرب منها، إلا رماها بحجر. وأقحم نفسه في معارك مع الكبار والصغار والوسط والجبابرة، ولم يعثر على احد يرد عليه. وكنت عندما التقي هيكل، أو مصطفى أمين ويحضر اسمه، يطرح كلاهما السؤال بطريقة واحدة: إزايو؟ عامل إيه؟
وكأنهما يسألان عن ولد يستدعي العطف، وربما هذا ما كان يستحقه. فقد غاب معادياً أقرب الناس إليه. وأبعدهم عنه. الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم. لم يتوقف عند حرمة أو ذكرى أو رابطة. ولم يعد مفاجئاً من يشتم أو يهاجم أو يزعم. لكن الحديث عن التابعي بهذه الطريقة يذهل حقاً. فقد كان جزءاً من دخله وشهرته رواية الذكريات عن التابعي، صحيحة أو كالعادة.
جريدة الشرق الأوسط