لم يكن الرسام العالمي بابلو بيكاسو (1881 – 1973) غريبا عن تاريخ الجزائر ولا عن الثقافة الجزائرية من حيث التأثير والتأثر، بل لقد ارتبط بذلك في لحظات حساسة جدا كما ارتبط اسمه بأسماء إبداعية تشكيلية وأدبية جزائرية وأيضا بأسماء شكلت مركز المقاومة المعاصرة في الجزائر، وهو ما يؤكد إنسانيته وعالميته وتحرره من المركزية الأوروبية، وفي كل هذه العلاقة مع الجزائر تاريخا وثقافة وفنا كانت في كل مرة المرأة هي طريقه إلى الجزائر.
بدأ بيكاسو رحلة علاقته بالجزائر حين رسم واحدة من أشهر لوحاته وهي “نساء الجزائر” التي أنجزها العام 1955، وهي اللوحة الأثمن في تاريخ الفنون التشكيلية حتى الآن وقد بيعت يوم 11 مايو 2015 بقيمة 179.3 مليون دولار أميركي، وهي لوحة تتكون من خمسة عشر لوحة مسلسلة عن نساء الجزائر.
وفي هذه اللوحة يقوم بيكاسو بمعارضة لوحة للفنان أوجين دولاكروا (1798 – 1863) في الرؤية وفي الوقت نفسه تخليدا لهذا الفنان الذي كان معجبا بأعماله، وقد حملت لوحة دولاكروا عنوانا هو “نساء الجزائر في شقتهم” والتي عرضت العام 1834، أي أربع سنوات بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر.
لقد رسم بيكاسو لوحته “نساء الجزائر” في عز الحرب التحريرية 1955، ورسم دولاكروا لوحته في عز سنوات الاستيطان حيث زار الجزائر في العام 1832. وبالتالي فثقل التاريخ مختلف تماما، صحيح أن العنف حاضر في اللحظتين الفنيتين، عنف الحرب وحصار الموت للحياة، ففي الأولى جيوش الاستعمار تزحف على شرق وغرب الجزائر بعد استيلائها على الجزائر العاصمة وضواحيها 1830، ولم يترك هذا الزحف الإنسان ولا الحيوان ولا النبات، وفي لوحة بيكاسو الخوف قائم أيضا حيث الحرب التحريرية الجزائرية بما فيها من خوف وموت واغتصاب الإنسان.
وكأن الاستعمار والتحرر منه لا يمكن أن يتجليا بشكل واضح إلا من خلال العنف الواقع على جسد المرأة ، وهو ما قام به دولاكروا من باب “اكتشاف” الغريب، وقام به بيكاسو برؤية “التخلص” من الدخيل. وقد استعارت الروائية آسيا جبار عنوان لوحة دولاكروا فاتخذته حرفيا عنوانا لمجموعتها القصصية “نساء الجزائر في شقتهن” المنشورة العام 1980.
إن لوحة بيكاسو “نساء الجزائر” ليست للعري أو لاستهلاك اللحم الأنثوي، كما فهمها بعض السلفيين، الذين طالبوا الدولة الجزائرية بشراء اللوحة وحرقها، لأنها كما يعتقدون بفهمهم المريض والمهووس بالجنس هي لوحة تسيء إلى صورة المرأة الجزائرية باعتبار أن الفنان قدمها بنهدين شبه عاريين. ولقد جابه بيكاسو هذا الفكر التقليدي المتزمت حتى في الأوساط البورجوازية الأوروبية، فيروى أن امرأة من الطبقة الأرستقراطية جاءت لحضور معرض لبيكاسو، وكانت بعض اللوحات المعروضة فيها اشتغال على جسد المرأة، فاقتربت السيدة من بيكاسو وقالت له: عيب، إن في لوحاتك عري مسيء للأخلاق، وبهدوء رد عليها بيكاسو قائلا: سيدتي العري ليس في اللوحة، العري موجود في رأسك. فقارئ اللوحة يحمل هواجسه عليها وينقل أمراضه في تأويلها.
إن لوحة بيكاسو “نساء الجزائر” كما هي المجموعة القصصية لآسيا جبار “نساء الجزائر في شقتهن” هما عملان الأول من خلال اللون والشكل، والثاني من خلال اللغة والسرد، عبارة عن تحرير المرأة من مخدع دولاكروا ومن النظرة الإيكزوتيكية.
أما اللقاء الثاني لبيكاسو مع المرأة الجزائرية فكان مع البورتريه الذي رسمه لجميلة بوباشا واحدة من جميلات الثورة الجزائرية (جميلة بوحيرد، جميلة بوعزة وجميلة بوباشا).
وجميلة بوباشا التي رسمها بيكاسو كانت مناضلة في جبهة التحرير الوطني أيام ثورة التحرير ألقي عليها القبض العام 1960 وهي تستعد للقيام بعملية فدائية، وقد تعرضت للاغتصاب والتعذيب من قبل الجيش الاستعماري الفرنسي، ويرجع الفضل إلى الكاتبة سيمون دو بوفوار والمحامية جيزيل حليمي في أنهما نقلتا قضيتها إلى الرأي العام الفرنسي من خلال كتاب جماعي نشر عنها بعنوان “جميلة بوباشا”، وحمل غلاف الكتاب البورتريه الذي رسمه بيكاسو للمناضلة جميلة بوباشا، وقد أطلق سراحها في أبريل 1962 ضمن معاهدة إيفيان التي كانت أساس الاستقلال الجزائري، ولا تزال جميلة بوباشا حية بعيدة عن الأنظار والإعلام.
وأما اللقاء الثالث مع المرأة الجزائرية، فكان هذه المرة مع الفنانة التشكيلية الشهيرة الجزائرية “باية” واسمها الإداري فاطمة حداد زوجة محيي الدين (1931 – 1998)، وهي الفنانة التي اكتشفها رائد السريالية أندري بروتون الذي عرض رسومها في معرض بغاليري “ميغث” الخاص بالفن السوريالي بباريس في العام 1947 وهي لا تتجاوز السابعة عشر من عمرها، وقد لفتت أعمالها الفنية انتباه بيكاسو لما تتميز به من عفوية وطفولة وشعرية وتجريب وحرية، فعرض عليها العمل إلى جانبه، فصاحبته في ورشته بباريس ما بين 1948-1952، وقد كانت الفنانة باية هي مصدر إلهام بيكاسو للوحته الشهيرة “نساء الجزائر”.
شكل بيكاسو أيضا حضورا كبيرا لدى الروائي محمد ديب، حيث كانت لوحته الشهيرة غرنيكا، هي من حرر كتابات محمد ديب من الواقعية البلزاكية والدخول في تجريب سردي سوريالي مثير، اتضح هذا في روايته “من الذي يذكر البحر” والتي يعترف محمد ديب نفسه في نص كتبه في شكل خلاصة للرواية بأنه تأثر بلوحة غرنيكا بيكاسو، وأن حرب التحرير الجزائرية لا يمكن كتابتها بما احتوته من دم وعنف وقتل وتشريد وهلع إلا بالاستثمار في أسلوب “الرعب” الذي يتجلى في “غرنيكا” لبيكاسو.
صحيفة العرب