لم يهتم أحد من الأدباء العرب القدماء والمحدثين بموضوع الصداقة مثلما فعل أبو حيان التوحيدي. وهذا ما أوضحه في كتابه “الصداقة والصديق”. وفي مؤلفه هذا كتب يقول “وأما الكتّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوْا من التنافس والتحاسد والتمادي والتماحك، فربما صحّت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وهذا القليل من الأصل القليل”.
وما نستشفه من كلامه هو أن أبا حيان أراد أن يؤكد لنا أن الصداقة بين أهل الأدب والفكر قد تكون نادرة، بل لعلها مستحيلة لأن التنافس والتحاسد بينهم يفسدانها، ويقوّضان أسسها في غالب الأحيان.
ولو نحن تمعّنا في تاريخ الأدب العربي في مختلف العصور لوقفنا على هذه الحقيقة التي جهر بها أبو حيان التوحيدي. فقد خلت حياة أبي الطيب المتنبي، وهو أحد نوابغ الشعر العربي، من مشاعر الصداقة، بحيث لا نعثر على ما يمكن أن يوحي لنا أنه، أي المتنبي، ارتبط بعلاقة صداقة متينة مع أيّ أحد من أدباء وشعراء عصره. وعندما ينقطع عن مدح الأمراء والملوك طمعا في المال والسلطة، كان يعود إلى نفسه ليمجدها، ويتغنى بها ليكون البحر، والسيف، والقلم، والشاعر الوحيد الذي نظر الأعمى إلى أدبه، وسمع كلماته من به صمم.
وبعد أن ضاق بأدباء وشعراء كانوا يهدرون أوقاتهم في التمسّح بأعتاب الأمراء وأصحاب النفوذ في بغداد طمعا في كسْب ودّهم، عاد أبو العلاء المعري إلى مسقط رأسه، معرة النعمان، ليعيش العزلة حتى النهاية، فلم يصادق أحدا، بل كان يرتاب من الجميع، ويحذر حتى من أقرب الناس إليه. وظل على هذه الصورة حتى نهاية حياته. وأما الجاحظ فقد اختار أن يكون “الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يَمَلَّك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق”.
وفي التاريخ المعاصر، قلّت الصداقات بين الأدباء أيضا، لتطغى بينهم مشاعر التحاسد والتباغض والتنافس على المجد والشهرة والنفوذ. وهذا ما نتبينه من خلال العلاقات المتوترة دائما بين أدباء مصر الكبار أمثال طه حسين والعقاد ومصطفى الصادق الرافعي في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. وكانت الصراعات بين الشعراء العرب على أشدها حتى لو انتسبوا إلى نفس التيار، وجمعت بينهم نفس الأهداف ونفس الطموحات الأدبية. لذلك نحن لا نعثر على علامات علاقة صداقة بين هذا الشاعر أو ذاك إلاّ في ما ندر.
والأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة لثقافات الأمم الأخرى. وكان الفيلسوف الألماني الكبير إمانويل كانط يقول إن الصداقة “هي تلك العلاقة التي تربط بين شخصين يسود بينهما الحب والاحترام المتبادل”. مع ذلك لم يصادق صاحب كتاب “نقد العقل المحض” أي أحد من الذين كانوا يترددون على بيته مساء كل يوم للاستفادة من أفكاره. وشن شوبنهاور هجومات عنيفة على هيغل لأن محاضرات هذا الأخير كانت تلقى إقبالا هائلا، في حين لم يكن يحضر محاضراته سوى طلبة لا يتعدى عددهم سبعة على أقصى تقدير.
وأما المعارك بين فلاسفة الأنوار الفرنسيين فقد جسدت مشاعر التناحر والتباغض والتحاسد في أسوأ صورها. وردا على الذين اتهموه بمعاداة السامية، وطالبوا بمحاكمته في نهاية الحرب الكونية الثانية، نعت الروائي الفرنسي لوي فارديناند سيلين صاحب رائعة “سفرة في آخر الليل” سارتر بـ”الأعور السخيف”، وكامو بـ”الثور الهائج”.
مع ذلك هناك استثناءات. فلولا أصدقاء سقراط الأوفياء، لما وصلت إلينا أفكاره وأطروحاته الفلسفية العظيمة. ولم يكن قد تبقى على نهاية القرن الثامن عشر غير ست سنوات، حين ارتبط غوته بعلاقة صداقة قوية وحميمة مع شيللر الذي كان قد غادر لايبتزيج ليقيم في فايمار ابتداء من العام 1794. وفي البداية لم يكن شيللر يرتاح كثيرا لغوته، بل كان يرى فيه الحاجز الذي يمنعه من الحصول على النجاح والشهرة. وأما غوته فقد اكتشف بعد عودته من ايطاليا حيث كان يبحث عن “صفاء في جميع فروع المعرفة والفن” أعمالا مهمة صدرت خلال غيابه.
وكانت مسرحية “اللصوص” لشيللر من بين هذه الأعمال. حال انتهائه من قراءتها، أحس غوته برغبة جامحة في التعرف على صاحبها. وقد تم اللقاء الأول بين الأديبين الكبيرين في بيت غوته. ودار حوار ساخن وممتع بينهما حول الفلسفة والأدب ليفضي في النهاية إلى نشوء علاقة صداقة نادرة في تاريخ الآداب العالمية. وفي بداية 1805 سقط كل من غوته وشيللر مريضين. وفي التاسع من مايو من نفس العام توفي شيللر. ولما علم غوته بذلك كتب يقول “كنت أعتقد أنني أنا الذي سأموت وها أنا أفقد صديقا وبفقدانه أفقد نصف وجودي”.
وتمثل الرسائل المتبادلة بين الأميركي هنري ميللر والبريطاني لورنس داريل حجة ثمينة وناصعة عن نقاوة الصداقة بين أديبين كبيرين. وجميع تلك الرسائل جاءت مُحمّلة بأفكار رائعة عن الحياة، وعن الفن، وعن الكتب، وعن المدن، وعن شعراء وفلاسفة قدماء ومحدثين. وكل واحد منهما كان يحثّ الآخر على مواصلة الكتابة تحديا لنقاد لم يكونوا يعيرون أي اهتمام لمؤلفاتهم.. ففي رسالة بعث بها إلى داريل من باريس في صيف عام 1936، كتب هنري ميللر يقول ”اسمع يا داريل، لا تيأس بعدُ. وإذا ما كنت شجاعا فإنه يتحتم عليك أن تمضي إلى النهاية حتى ولو كانت أعمالك مرة. وإذا ما أنت تحمّلت الضربة، وأنا على يقين بأنك قادر على ذلك، فلا تكتب إلا ما أنت ترغب في كتابته. ليس هناك عمل آخر يجدر بك أن تقوم به إلاّ إذا ما كنت تتطلع إلى الشهرة. وبما أنهم سيتبوّلون عليك على أيّ حال، فإنه يتوجب عليك أن تبدأ بقول ما أنت ترغب في قوله”.