فوز “سيدات القمر” سيضع الكاتبة الشابة تحت أضواء ساطعة قد تبهرها
عندما صدرت رواية “سيدات القمر” للكاتبة العمانية الشابة جوخة الحارثي في العام 2010 عن دار الآداب لم تلقَ الترحابَ النقديّ المفترض الذي لقيته روايات أخرى صدرت في الفترة نفسها مثل “طوق الحمام” للسعودية رجاء عالم أو “القوس والفراشة” للمغربي محمد الأشعري و”البيت الأندلسي” لواسيني الأعرج و”اليهودي الحالي” لعلي المقري و”صائد اليرقات” لامير تاج السر… لكنّ بعض المقالات رحبت بها في كونها رواية طالعةً من عمق الذاكرة العمانية التاريخية والسياسية والشخصية، وتلقي أضواء جديدة على البيئة التي ما برحت غير متطرق إليها روائياً تماماً، ما خلا طبعاً، ما كتب ويكتب في مجلة “نزوى” من نصوص شعرية ونثرية ترتبط بهذه البيئة وفي مقدمها نصوص سيف الرحبي شاعر “الربع الخالي”. وقيل إن الرواية رشّحت إلى جائزة البوكر العربية لكنّ الحظ لم يحالفها بتاتاً ولم تلفت انظار لجنة التحكيم، فلم تدخل حتى القائمة الطويلة. كان على الرواية أن تنتظر نحو تسع سنين لتعود إلى الواجهة بقوة، الواجهة العربية والعالمية، عندما اختيرت بترجمتها الإنكليزية التي أنجزتها المستشرقة البريطانية مارلين بوث، في اللائحة الطويلة لجائزة “إنترناشيونال مان بوكر” البريطانية المرموقة، ثم في اللائحة القصيرة ثم تتويجها فائزة أولى، وهذا التتويج بدا بمثابة حدث عربي كبير نادراً ما شهد الأدب العربي الراهن ما يماثله. وتمكّنت جوخة الحارثي من مواجهة أسماء كبيرة من الحركة الروائية العالمية ومنها رواية “السنوات” للكاتبة الفرنسية آني إرنو (ترجمة أليسون إل سترومر)، و”جزر الصنوبر” للكاتبة الألمانية ماريون بوشمان، (ترجمة جين كاليغا)، و”مرَّ بمحراثك على عظام الموتى” للكاتبة البولندية أولغا توكاركوك (ترجمة أنتونيا لويد جونز)، رواية “ظلال الأطلال” للكاتب الإسباني خوان غابرييل فاسكويز (ترجمة آن ماكلين)، و”حق الانتفاع” للكاتبة الإيطالية – الإسبانية علياء ترابوكو زيران (ترجمة صوفي هيوز).
ولعل فوز جوخة الحارثي بهذه الجائزة المرموقة التي تقاسمتها مع مترجمتها البريطانية (60 ألف دولار مناصفةً) سلّطت عليها الأضواء الساطعة للفور وجعلتها واحدة من “نجوم” أو “نجمات” الرواية الجديدة في العالم، علاوة على كونها الاسم العربي الأول والكاتبة العربية – الخليجية الأولى التي تصل إلى هذه المرتبة التي تزاحمت عليها أسماء عربية وعربية فرنكوفونية وإنغلوفونية معروفة ولم تفزْ بها، ومنها على سبيل المثل الطاهر بن جلون. كيف ستتلقّى جوخة هذه الأضواء؟ هل تؤثر سلباً فيها هي التي لم تكتب حتى الآن سوى ثلاث روايات ولا تزال في مستهل تجربتها، أم أنها لن تتأثر بالشهرة وستحافظ على وتيرتها الإبداعية وتواصل مسيرتها؟
ربما من المبكر طرح مثل هذه الأسئلة على جوخة الحارثي التي كانت فازت قبل عام بجائزة السلطان قابوس عن روايتها “نارنجة”. لكنها بدءاً من الآن ستكون محط أعين القراء والنقاد لا سيما بعدما استطاعت أن تسبق روائيين وروائيات كباراً وكبيرات، إلى موقع عالمي ليس من السهل بلوغه لاسيما في عمرها (41 سنة). لقد تخطّت كل الذين يسمون “مشاهير” وفي مقدمهم الجزائرية أحلام مستغانمي التي تعد أكثر الروائيين العرب الحاليين شهرة ومبيعاً. لكنّ مأزقاً ما قد يظهر لاحقاً بعد أن تنتهي حفلات الترحيب والمديح، ويتمثّل في البحث عن موقع جوخة في الرواية العربية الراهنة، وعن حجم حضورها وعن الأثر الذي تركته في الكتابة الروائية الجديدة. حتماً سيبحث النقاد الذين انتبهوا للحين إلى اسم جوخة، عن فنّها السردي وعن شخصياتها والأحداث التي تحتويها رواياتها الثلاث. إنها في معنى ما ستخضع للنقد الاسترجاعي والتقييم وستكون أعمالها على محكّ الدراسة والبحث.
لن تنجو جوخة الحارثي من حسد الحاسدين والحاسدات ومن الغيرة التي تتأكل صدور الكثرين والكثيرات. سيقول بعضهم حتماً إن الترجمة الإنكليزية الناجحة هي التي مهّدت لها الطريق إلى الجائزة، وليس الرواية نفسها التي لم تصبْ نجاحاً شعبياً أو نقدياً في لغتها العربية. هذه “النظرية” قد تكون ممكنة والأمثلة كثيرة: كم من روايات عربية أو غير عربية بدت في الصيغة المترجمة أقوى وأجمل من الصيغة العربية. أو لعل هذه الروايات عندما تُرجمت نالت قسطاً من الإبداع لم تعرفه في الصيغة الأم. لكن الألسنة المغرضة لا تستطيع أن تنفي طبيعة المباراة القوية والحاسمة التي خاضتها جوخة مع أسماء عالمية كبيرة حقاً.
تسرد رواية “سيدات القمر” قصة ثلاث شقيقات يواجهنَ تحولاتٍ شبهَ جذرية تحدث في المجتمع العماني والأثر الذي تتركه هذه التحولات في عائلتهنّ. وتدور أحداثها في قرية “العوافي” في سلطنة عمان، التي تعيش فيها الشقيقات الثلاث: مايا، التي تزوجت من عبد الله بعد مشاكل كثيرة، وأسماء، التي تزوجت فقط كواجب اجتماعي، وخولة، التي تنتظر حبيبها الذي هاجر إلى كندا. تعكس قصص الشقيقات الثلاث تطوّر عمان من مجتمع تقليديّ يمتلك العبيد إلى حداثة معقدة. وليس مستغرباً أن تمثّل خلفية الرواية عاداتِ وتقاليدَ البدو في عُمان، التي تشبه عاداتِ البدو في الصحارى العربية كلها. وهذا ما عبّرت عنه الراوية: “ظلّ البدو، على الرغم من استقرارهم الظاهري، محتفظين بزيّهم التقليدي، وطباعهم الحرّة، وبالحدود العارمة التي تفصلهم عن الحضر”. أما سيدات القمر اللواتي تحمل الرواية لقبهنّ عنواناً فهنّ يرجعن إلى إحدى الأساطير العمانية التي تقول إنّ البارئ خلق الناس يمشون على أربع، ثم شطرهما نصفين، فأصبح كل نصف يبحث عن نصفه الآخر. تُمعن جوخة في استرجاع الماضي البعيد، وترسم المنحنى الذي سلكته الحياة في الصحراء العُمانية، من صيد اللؤلؤ إلى التجارة بالرقّ فإلى ظهور النفط… وتسعيد الرواية التقاليدَ القديمة، التي كانت رائجةً في عمان ومنها رقصة الزار.
وجاء في تقرير لجنة تحكيم الجائزة إن الرواية تمثّل “نظرةً ثاقبة خيالية وغنيةً وشاعريةً إلى مجتمعٍ يعبر مرحلةً انتقالية، وإلى حياة كانت مخفيةً في السابق. الرواية محكمة ومبنية بأناقة وهي تحكي عن فترة زمنية في عمان من خلال مشاعر الحب والفقدان داخل أسرة واحدة”. وقالت رئيسة لجنة التحكيم بيتاني هيوز، إن الرواية أظهرت “فناً حساساً وجوانبَ مقلقةً من تاريخنا المشترك. أسلوبها يُقاوم بمهارة العباراتِ المبتذلةَ عن العرقِ والعبوديةِ والجنس”.
ولا بد ختاماً من الإشارة إلى أن دار الآداب التي أسسها الروائي الراحل سهيل إدريس كان لها هذا العام حصة الاسد في الجوائز، فرواية هدى بركات “بريد الليل” فازت بالبوكر العربية وراوية “سيدات القمر” فازت بالبوكر العالمية.