وموت الأب، أو قتله، مصطلح يرمز إلى رغبة الفرد في التحرر من سطوة الذين يريدون له أن يكون نسخة منهم. لكن محاولات الخروج من جلباب الأب ليست مأمونة العواقب دائماً. وهناك من يفضل البقاء في طيّات الجلباب، قانعاً بأكل الزبيب.
سنة 2002، آخر سنوات حكم صدام حسين، صدرت للقاص والروائي العراقي أحمد خلف رواية سمّاها «موت الأب». إن مجرد اختيار عنوان من هذا القبيل هو مغامرة تثير الشكوك وتدفع إلى التأويل. والتأويل هو آفة المبدع في البلاد التي تضيق فيها كوّة الحرية. وفي مقال له، يحكي الكاتب عن السنوات الخمس التي استغرقتها كتابة تلك الرواية، فهو قد بدأها منتصف التسعينات، في فترة حرجة عانى فيها العراقيون من ظلم الداخل والخارج. ولم يكن أحمد خلف مبتدئاً يحبو على أرض الأدب. إنه قاص وروائي له شهرته وتقديره، يدرك أنه يمسك بصفيح ساخن وعليه أن يوصل فكرته دون أن تحترق أصابعه. كيف تمكن إدانة «الأبوة الطاغية»؟ الحل في الترميز. لعبة تتجاور فيها المتعة مع الإحباط. ليت أحد الأكاديميين يتولى دراسة مئات النصوص المُرمّزة، من شعر ونثر، التي طبعتها مطابع الدولة في تلك الفترة.
حين بدأ كتابة الرواية، كان أحمد خلف قد فقد أباه «الحقيقي» بسبب شحة الدواء في زمن الحصار، وتبعته والدته واثنان من أشقائه وما عاد يستطيع المسامحة ولا النسيان. يكتب: «كانت فكرة الاضطهاد قد تبلورت في أذهان العراقيين، وأردت إدانة الشر ودحض طروحاته المدمرة ونحن نراه يستخف بمصائرنا ويشعل الحروب. إذاً سأكتب عن الأبوة الماكرة التي دمرت كل شيء». القرار سهل والتنفيذ وعر. إنها الكتابة التي يتقدم فيها صاحبها جملة ليشطبها ويتراجع جملتين، إذ ليس هناك اطمئنان نهائي تستقر عليه المرادفات والاستعارات. وكانت النتيجة أن أحمد خلف كتب روايته أربع مرات ودسّ فيها، بخبرة الصانع، إشارات سريّة لتشكيل ما يسميه «مملكة المعنى». ولما عرض المخطوطة على صديق يثق فيه، اقترح الصديق ملاحظات إضافية للتحايل على الرقيب. من هو الرقيب؟ إنه موظف في إحدى الدوائر الثقافية، وفي أحيان كثيرة يمارس الكتابة، وقد يكون من أصدقاء المؤلف. وبهذه الصفة، كانت تدور تواطؤات بين بعض الرقباء والمؤلفين لكي تأخذ الروايات طريقها نحو النشر. إن الدولة هي الناشر المهيمن. الأب الذي يفرش جلبابه على الأقلام.
في مقابلة حديثة معه، يشرح أحمد خلف أن المأخذ المهم على القصة القصيرة في العراق كان تنحيتها للتاريخ وتجاوزها على الهوية المحلية. أي غموض الكثير من نصوصها كأنها لا تريد المواجهة مع واقعها. لذلك وبعد الانتهاء من قراءة القصة يتساءل قارئها: «في أي بلد جرت هذه الأحداث؟».
اليوم يمكن للأدباء العراقيين أن يضعوا النقاط على الحروف المبهمة. هل قتلوا الأب وأرسلوا الرقيب إلى الجحيم؟ بين يدي رواية «تسارع الخطى» لأحمد خلف، الصادرة سنة 2014. نص ممتع يتنفس فيه الكاتب بملء رئتيه، بطله مؤلف مسرحي «لا يجيد من مهنة غير الفن الذي وهبه كل حياته ولم يستطع أن يشق طريقه فيه بين مجموعة من الخنازير التي تتحول بقدرة قادر إلى حيتان… هل نحن من أبناء هذا البلد الذي ينام على بحر من الثروات أم نحن ضيوف جئنا وتشبثنا بتربته؟ الويل للحكومة التي يجوع شعبها وهي تمتلك الثروات الطائلة ويعرى الفنان ويموت منفياً من خيرات بلده». يجري اختطاف البطل لمساومته على كتابة مسرحية أو رواية تخترع ماضياً مجيداً لـ«الرجل الكبير»، أي زعيم العصابة. إن الآباء يتوالدون.
الشرق الاوسط