قد يعبّر العنوان الذي ارتآه الشاعر سامر أبو هواش لمختارات الشاعر الأميركي راسل إدسون (1935 – 2014) “شمس تدخل من النافذة وتوقظ رجلاً يسكب القهوة على رأسه” (منشورات المتوسط) التي ترجمها وقدم لها، عن حقيقة التجربة التي يخوضها هذا الشاعر الفريد في صلب قصيدة النثر الأميركية والعالمية. فالعنوان الماخوذ من إحدى القصائد يختصر مفهوم “الفن الشعري” لدى هذا الشاعر الرائد الذي كان له أثر في كوكبة من الشعراء الذين جايلوه أو أعقبوه، والذي غدت تجربته متميزة جداً على مستوى قصيدة النثر العالمية، في تقنياتها وعناصرها الجديدة. فالعنوان الذي هو بمثابة صورة شعرية، يؤكد اندماج التخييل الحلمي باللحظة السردية الوجيزة في سياق سوريالي غرائبي واضح. وتحفل قصائد ادسون كثيراً بما يماثل هذه الصورة الغريبة أو الفانتازية. ويمكن القول إن هذا الشاعر الذي ينتمي إلى سلالة قصيدة النثر في تجلياتها، الفرنسية والأميركية كافة، استطاع أن يتخطى معايير هذه القصيدة أو ثوابتها التي استخلصتها الناقدة الفرنسية الشهيرة سوزان برنار في كتابها الشهير”قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا”، وأن يعيد النظر فيها مشرعاً لها أفقاً غير مألوف كثيراً، مضيفاً إليها أبعاداً ليست غريبة أصلاً عن جوهرها، بل تعد تطويراً لها. لكن ادسون لم يكن غريباً عن شعراء قصيدة النثر الفرنسية لا سيما هنري ميشو (ديوان “بلوم”) وماكس جاكوب غير الرائج اسمه كثيراً على الرغم من أهميته، وإندريه بروتون الذي اختلف معه في بعض المفاهيم. ولا يغيب أيضاً أثر كافكا فيه سواء بجوه الغرائبي أم في تقنياته السردية التي حملتها قصصه القصيرة جداً. فمعظم قصائد ادسون تقوم على “سرد” مشهد أو وقيعة أو حادثة صغيرة أو حكاية خرافية (فابل) أو غرائبية (فانتاستيكية) حتى لتكاد تغدو ظاهراً وكأنها قصة، لكنها لا تستحيل قصة بتاتاً، بل تظل قصيدة. وفي هذه القصيدة كل شيء ممكن، ما دامت المخيلة (قبل الكلمات) هي التي ترسم الخطوة الأولى. ولعل هذه القصيدة تحرص على الإيقاع المتوتر حتى في أقصى اللحظات السردية لتؤكد شعريتها “المضادة” وتنحرف بها عن مسارها السردي.
وضع سامر أبو هواش مقدمة مهمة ومختصرة للمختارات، ألقى فيها أضواء على هذه التجربة الشعرية الأميركية الفريدة، لمنح القارئ العربي مفاتيح لا بد منها للدخول إلى عالم ادسون. فقارئ ادسون بحسب أبو هواش، يجد “خيطاً موصولاً من السردية القائمة على قوة المفارقة وسريالية الحالة الإنسانية”، وهذا الخيط يكاد الشاعر ألا يحيد عنه. والواضح أن قصائد ادسون بنزعتها السردية وسريالتها “الإنسانية” تضيء جوانب مختلفة من الوجود البشري ومظاهره في إطار الحيز الفردي المغلق أو الحيز العام، المنزلي أو العائلي أو الاجتماعي المفتوح. هذه ملاحظة مهمة يبديها أبو هواش وتصلح فعلاً للإحاطة بعالم الشاعر على اختلاف مظاهره. غالباً ما يعمد ادسون كما يقول أبو هواش، مدخلاً سردياً في قصائده، ثم يحصل الانزياح في شكل مفاجئ، فتمضي القصيدة في معارج أخرى، غرائبية وحلمية ولا واقعية. إنها “عملية بتر حادة” للسرد القصصي وقطع له. ويسجل أبو هواش ملاحظة مهمة في هذا السياق مفادها أن قصائد ادسون تحوي أشخاصاً أو “أبطالاً” في معنى ما، تنطلق القصيدة منهم: رجل، امرأة، زوجة، زوج، عجوز، ابن، ابنة… لكنّ هؤلاء يحضرون ضمن المشهد أو في سياق الحدث اللامتوقع. والأمثلة في هذا القبيل كثيرة: امرأة وجهها جراب بقرة تبرز منه أربع حلمات، رجل قرأ مسرحية إغريقية وافتعل شجاراً مع أبيه وانتهى به الأمر إلى أن يطلب يد أمه للزواج، رجل ذو رغبة مفاجئة في النباح على القمر، رجل وضع طوقاً ورسناً حول رقبته وأمسك الرسن بيد وصحب نفسه في نزهة، امرأة تحاول إدخال خيط في عين إبرة لتخيط عيني زوجها فينام، رجل مسن يتقيأ معدناً، شيخان أحدهما يضع حفّاضاً والثاني يرتدي ملابس فتاة صغيرة، سيدة عجوز كانت تحرك قِدراً بذيل كلب، امرأة ظنت يد زوجها قطعة خبز محمص… طبعاً هذه الجمل أو الأبيات لا تُقرأ منفردة أو مستقلة عن سياقها الشعري واللغوي أو منفصلة عن لعبتها التقنية البارعة. لكنها قادرة على وضع القارئ في المناخ العام الذي يكتب الشاعر ضمنه.
ثورة على الأنماط
يسعى الشاعر راسل إدسون إلى الخروج من أنماط التعبير المعروفة ومن الأجناس والأنواع والطرائق الشائعة والراسخة تاريخياً. يحاول أن يقف موقفاً “مضاداً” إزاء الأنماط والأجناس والأنواع، وصولاً كما يشير أبو هواش، إلى “العبث الخالص واللامعنى الصافي” (أي المجانية بحسب سوزان برنار). يلجأ إلى الفطرة الطفولية والمخيلة الحكائية والرسم الكرتوني والرسم التكعيبي مع نزعة إلى الفن التعبيري (الألماني)… كأنه يريد أن يرى العالم لا كما هو بل بعيني طفل وأن ينظر إلى الحقيقة بعين حالم أو مجنون أو مهلوس أو مهلسن. الكتابة بنظر ادسون فعل حرية مطلقة، وفي هذا الصدد يصف قصيدة النثر بـ”النوع الذي يقع فيه كل ما لا يمكن تصنيفه ضمن الأنواع الكتابية الأخرى”.
حسناً فعل الشاعر سامر أبو هواش في تقديم الشاعر راسل ادسون وترجمة مختارات له إلى العربية، انتقاها من سائر دواوينه، في سياق مشروعه الكبير والطويل في نقل عيون الشعر الأميركي الحديث إلى العربية. وقد كان أميناً على عالم الشاعر وعلى مناخه وإيقاعاته، ومنح لغته اعتناء كبيراً، حتى بدا كأنه يكتبها بمتانة وبساطة في آن واحد، أي بحسب مفهوم الشاعر لها. كان لابد للقراء العرب أن يتعرفوا على هذا الشاعر الذي يحتل مكانة مرموقة وطليعية في تيار موجة قصيدة النثر الأميركية والعالمية، كما في تيار الشعر الحديث وما بعد الحديث. وكان الشاعر شهد في انطلاقته الأولى حالاً من التهميش الجزئي، حتى أنه أطلق على نفسه صفة “الناسك”، لكن القراء والنقاد سرعان ما اكتشفوه فحل في مقدمة الشعراء الجدد واحتل واجهة الشعر الأميركي الراهن مثله مثل أبرز الاسماء المعروفة. لكنه استطاع أن يتميز كشاعر قصيدة نثر، في إضافته البارزة إليها، كما تمت الإشارة سابقاً، وفي تطويرها وتوسيع أفقها واختبارها لغوياً وشكلياً وبنيوياً.
www.independentarabia.com