الاستفزاز أو “La provocation” في الأدب الإبداعي هو فلسفة، هو رؤية متكاملة للعالم، الاستفزاز ليس هو “الشطط” كما ينظر إليه حراس معبد الأخلاق الزائفة أو كما تصنّفه السلفية الخارجة عن التاريخ، وعن زمن الناس هذا.
جميع الروائيين والشعراء والفلاسفة الذين خلّدهم التاريخ واحتفظت الإنسانية بكتاباتهم ونصوصهم كمرجعيات في القراءة العابرة للأجيال والجغرافيات، كانوا في يوم ما يصنّفون في خانة كتّاب “الاستفزاز”، كتّاب “خرق القانون الأخلاقي”، لكن الذين حكموا عليهم طواهم النسيان، وظلت كتابات هؤلاء خالدة.
كان بودلير ومثله رامبو وهنري ميللير وفلوبير وأبونواس وبشار بن برد والمعري وغيرهم يصنّفون في خانة كتّاب “الاستفزاز”، ولكنهم وحدهم وبكتاباتهم هذه “غير المعتادة”، “المستفِزّة” وسّعوا فضاء الحرية جهة الكتابة، شكلا ولغة وموضوعا ورؤية، وقاموا بعمل جبّار جهة القارئ حيث منحوه معاول لتحطيم أسوار ظلت قائمة في رأسه لطالما حجبت عنه شمس الحرية والتحرر والانطلاق، ففي “الاستفزاز″ بوصفه فلسفة ورؤية للعالم، عالم الكتابة والعالم الحيّ، تكمن معجزة الكتابة الإبداعية.
الاستفزاز لا يحرر الكاتب فقط ولا الكتابة فقط بل يحرر القارئ أساسا، وهذا هو ما يجعل القوى التقليدية والسلفية في الأدب وفي الدين تخشى منه ومن عاقبته، فـ”الاستفزاز” الإبداعي المؤسس، في علاقته بالقارئ، مشروع انقلابي يخلخل مخيال “المتلقي”، وهو بذلك يمثل انقلابا في فكرة وشكل أفق “الانتظار” و”الاستقبال” السوسيولوجي والأخلاقي والجمالي والسياسي.
و”الاستفزاز” في الكتابة حتى يكون “إبداعيا” عليه أن يكون مؤسسا على “معرفة” عميقة و”قراءة” تراكمية و”تمحيص” نقدي جدلي، فالاستفزاز بمفهومه الفلسفي المؤسس على القراءة ونقدها المستمر، يشكل معارضة جذرية لتاريخ طويل من جثث النصوص “الباردة” ونقضها وتأبينها والمشي في جنازتها وإقامة الأعراس لغيابها والرقص على قبرها، والاستفزاز في الإبداع هو وضع الأصابع في “النار” لحظة الكتابة لتتحول هذه النار إلى “طاقة” تحيي ولا تحرق، نار صديقة للحياة وليست سببا في خراب الدنيا بشرا وشجرا وقططا.
لقد جرّ “الاستفزاز” كثيرا من الكتاب المبدعين والفلاسفة، عبر العصور ولا يزال، وبتحريض من قوى الظلام الدينية أو الفكرية من لاحسي صحون الخلفاء المعاصرين أو القدامى، إلى المقاصل الهمجية وإلى غياهب السجون القروسطية وإلى برودة المنافي وإلى التعذيب وإلى المحاكم البوليسية والأخلاقية القاسية والعنصرية، والاستفزاز كان السبب في منع نصوص كثيرة من قبل حراس معبد الدين والأخلاق والنفاق لفترة معيّنة، طويلة أو قصيرة، لكنها ما فتئت أن عادت لتصبح دررا تقرئ بشغف، وتدرس في الجامعات والمعاهد، وتحول، في حالة الإبداع الروائي، إلى أفلام ومسرحيات، وتشكّل مصدرا ملهما للوحات فنية وسيمفونيات راقية خالدة.
لمحاربة أدب “الاستفزاز″ الجاد والمؤسس والباحث عن حرية الفكر وتحرير الإنسان، يلجأ حراس معبد السلفية ومشتقاتها المتموقعين بقوة في الثقافة العربية والمغاربية، إلى اتهام كتاب “الاستفزاز الفلسفي” بالزندقة أو سوء الأخلاق أو الإساءة للوطن أو التعامل مع العدو، كما حدث مع الطاهر الحداد في تونس ونصر حامد أبوزيد في مصر ومحمد شكري في المغرب وكاتب ياسين في الجزائر وغيرهم كثير.
لكبح فلسفة “الاستفزاز” وبالتالي الإبقاء على “فكر الطاعة” بين “القطيع” من البشر الذين “يحاولون” العيش في العالم العربي والمغاربي يلجأ أعداء الحرية إلى رمي الكتاب بتهم جاهزة ك “التخوين” أو “التكفير” أو “التهويد”، هكذا يحرك “فقهاء الظلام” “الدهماء” ضد التنوير الذي يكمن في “الإبداع الاستفزازي” الجاد.
وعند فقهاء الظلام هؤلاء، كل إبداع يناهض سلطتهم الكهنوتية ويفتت من “صنميتهم” هو إبداع مرفوض ويجب محاربته، ولكن التاريخ علمنا بأن “المبدع″ الكبير هو من يجرأ على مواجهة التحنيط الفكري بكل ثقة وأيضا متسلحا بمعرفة وبنقد متنور.
و”الكتابة المستفزة” هي ليست الكتابة “الغاضبة” بل هي الكتابة الرافضة للسكونية والمحاربة للجمود القائم في مفاصل الثقافة العربية والمغاربية.
صحيفة العرب