في يومياتها تحدثت أناييس نن، عن شخص تعرفه اسمه أرتو. مضت السنوات ولم تعد تلتقيه، ولكنها كتبت عنه قصة عنوانها: «أنا أشد مرضاً من السرياليين». لم يكن لديها جديد حول صفات أرتو غير تلك التي ذكرتها في اليوميات، ولكن تناهى إلى علمها أن الأمر انتهى به إلى مستشفى المجانين.
في كتابها «رواية المستقبل» الذي ترجمه، إلى العربية، محمود منقذ الهاشمي، قالت إنها ذهبت ذات صباح رفقة أحد المهتمين بالطب العقلي إلى مستشفى عمومي للمرضى النفسيين كتلك التي دخلها أرتو. هناك دخلت «مكاناً قذراً» يحاولون فيه تصنيف شكل الجنون قبل وضع المريض في المستشفى.
لم ترق لها ولا للشخص الذي كان برفقتها الطريقة التي كان الطبيب المعني يوجه بها أسئلة للمريض، الذي أمامه لكي يخلص إلى تشخيص حاله، ولكنها استمعت باهتمام لما كان يقوله المريض، فشعرت أن حديثه قد يكون هو نفسه الحديث الذي كان يمكن أن يدلي به أرتو، الذي عنه تكتب القصة المشار إليها؛ حيث لمست تشابهاً في التعبيرات الشعرية وفي طبيعة المخاوف.
كان عليها وهي تكتب القصة أن تضع «شظية من هناك وشظية من هنا»، والتعبير لها، شظية من حديث المريض الجالس أمام الطبيب وشظية مما تعرفه وتتذكره عن أرتو، وكانت تشعر أنهما منسجمتان سيكولوجياً ومنطقياً.
بعد سنة أو سنتين على نشر قصة «أنا أشد مرضاً من السرياليين»، صادفتها رسالة كتبها أرتو من مشفاه، فأدهشها أن لهجة الرسالة وموضوع هواجسها ولغتها شبيهة إلى أقصى الحدود بالحديث الذي سجلته للمريض الذي رأته في المستشفى الذي زارته، ووجدتها متسقة معه سيكولوجياً ومطابقة للواقع الداخلي عند أرتو.
هذه الشهادة تتصل بالخزّان الذي منه يستقي الأديب، خاصة حين يكون سارداً، حكاياته وانطباعاته. في الكثير من الحالات نحن لا نصف ما نرى على الفور، إنما ما نتذكره من تلك الرؤية، بعد أن تصبح خلفنا، ولكن الذكريات وحدها ليست كافية لتعبئة الفضاء السردي، وهنا ربما يستعين السارد ببعض المشاهدات وبالكثير من المخيلة، التي يتفاوت ثراؤها بين سارد وآخر.
سومرت موم، كان يشير دائماً إلى استخدامه عند الكتابة القصص التي كان يسمعها، وكتّاب آخرون يستمدون أحاديثهم مما يقرؤونه في الصحف. أما أناييس نن نفسها فكانت تفضل أن تكون أقرب إلى مادتها منهم، لكنها لا تنفي أن بعض الأشخاص يتقنون سرد القصص على نحو لا يشعرنا بالحاجة إلى التأكد من صحتها.
جريدة الخليج