عندما قرر الشاعر الإماراتي حبيب الصايغ الذي وافاه الموت صباح اليوم الثلثاء عن 64 سنة، أن يصدر أعماله الشعرية الكاملة عام 2012، كان هاجسه أن ينهي جمع كل دواوينه في طبعة واحدة يشرف عليها هو بنفسه، خوفاً من أن يفاجئه الموت الذي كان يخشاه خصوصاً بعدما حل به وهن شديد في السنوات الاخيرة. وقد تحمس لهذه الخطوة عقب وفاة صديقه الشاعر الإماراتي أحمد ثاني الذي تطلّب جمع أعماله بعد رحيله جهوداً بذلها أصدقاؤه والدار الناشرة. وعلى الرغم من المهمات الكثيرة التي ألقاها بنفسه على عاتقه والمسؤوليات التي تحملها، كان الصايغ يخاف قدوم الموت، ولم يكن يبوح بهذا الخوف إلا أمام أصدقاء له قلة. كان لديه حدس شبه دائم بأن الموت سيفاجئه في أوج عطائه، فهو الذي كان يعاني أكثر من مرض ، لم يكن يراعي الشروط الصحية ولا توصيات الأطباء، بل كان يعيش حياته بوصفه شاعراً مغامراً يخوض السجال تلو السجال، ويواجه حال الركود والاستسلام العربيين، خصوصاً بعدما شغل منصب الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. فهو شاء أن يطور هذا الاتحاد العام وسائر الإتحادات العربية، لكنه كان يصيب حيناً ويخيب حيناً آخر.
كان حبيب الصايغ شاعراً أولاً وأخيراً، كان شاعراً قبل أن يكون صحافياً ومعلقاً يومياً ورئيس تحرير ومدير مراكز ومجالس ونواد. صفته الشعرية كان يقدمها على أي صفة أخرى وكان ينطلق منها ليقدم نفسه في سائر المجالات التي تجلى فيها. وكشاعر كان الصايغ ينتمي إلى جيل الثمانينيات في الإمارات والعالم العربي، وهو الجيل الذي كان خير وارث لقصيدة التفعيلة التي تجلت في الستينيات مع شعراء كبار مثل بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وأدونيس ويوسف الخال وسعدي يوسف وسواهم، وكان في الوقت نفسه خير وارث لقصيدة النثر كما تبدت في الستينيات أيضاً مع شعراء مثل محمد الماغوط وأنسي الحاج وسركون بولص وسواهم. وقد كان الصايغ أحد ممثلي هذا الجيل سواء في كتابته قصيدة التفعيلة أو الشعر وقصيدة النثر على طريقته وبحسب رؤيته إليهما. ولم يضره بتاتاً أن يكتب النوعين فيتعايشان في قصائده كل وفق شروطه ومعطياته الأسلوبية والجمالية. ويجب الإشارة أيضاً إلى أن الصايغ كتب قصائد موزونة ومقفاة في مراحل متقطعة من مساره. ولعل ما ميز تجربة الصايغ هو جمعه بين ذاكرة التراث الخليجي وتقاليده الثقافية وهية العصر الحديث، فكان في الوقت نفسه شاعراً اصيلاً يغني أرض الأجداد ويستوحي تراثهم، وشاعر الحداثة المنفتح على العصر واسئلته الشائكة وقضاياه الإشكالية. ومثملا كان شاعر معنياً بالجماعة وهموهها كان أيضا شاعر الإنسان الفرد ومعاناته الشخصية والوجودية.
حمل ديوان الصايغ الأول عنواناً طريفاً هو “بار بني عبس: الدعوة عامة” وقد صدر العام 1980. وقد عبر فيه عن حال الإنفصام التي يعيشها العالم العربي بين تعلق بالتقاليد وتحرر منها. ثم تلاه بعد عام ديوان “التصريح الأخير للناطق باسم نفسه”، وألحقه بعد عام أيضاً بديوان سماه “قصائد إلى بيروت” وفيه استوحى مأساة الحصار الإسرائيلي لمدينة بيروت عام 1982 وخروج الفلسطينيين منها عبر سفن في البحر. ثم توالت دواوينه الأخرى: “ميارى”(1983)، “الملامح”(1986)، “قصائد على بحر البحر”(1993)، “وردة الكهولة”(1995)، “غد”(1995)، “رسم بياني لأسراب الزرافات”(2011)، “كسر في الوزن”(2011). وله قصائدعدة كتبها في الفترة الأخيرة ولكن لم يتسنّ له الوقت لجمعها في ديوان ومنها قصيدة طويلة عن المتنبي.
ولد حبيب الصايغ في أبوظبي عام 1955، حصل على إجازة الفلسفة عام1977 وعلى الماجستير في اللغويات الإنجليزية والعربية وفي الترجمة عام1998 من جامعة لندن. عمل في الصحافة والثقافة وترأس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وانتخبته الجمعية العامة للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب أميناً عاماً للاتحاد في 2015 ثم أعادت انتخابه لدورة ثانية في يناير (كانون الثاني) من هذا العام.
دأب الصايغ خلال سنوات على كتابة زاوية يومية في الصفحة الأخيرة في جريدة “الخليج” الإماراتية بتوقيع “ابن الديرة”، وكانت من الزوايا التي يتابعها القراء يومياً. كان الصايغ يتناول في هذه الزاوية اليومية موضوعات وقضايا عدة تعني الناس، افراداً وجماعة، وكان يعتمد في كتابتها أسلوبا فيه الكثير من المرونة والعفوية، عطفاً على التحليل والنقد والسخرية في أحيان. وقد عمد الكثير من أصدقائه الى تسميته “ابن الديرة” تيمناً باللقب الذي كان يوقع به. شارك في عشرات المؤتمرات والندوات العربية والعالمية. وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية والصينية.
حصل في عام 2004 على جائزة تريم عمران (فئة رواد الصحافة)، حصل في العام 2007 على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وكانت المرة الأولى التي تمنح لشاعر. وهو رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات منذ عام2009 ، أسس وترأس تحرير مجلة “أوراق” الثقافية (1982 – 1995). وكان الراحل قد فاز بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في حقل الشعر الدورة 14، وورد في شهادة الجائزة أنه يعد أحد رواد الحداثة الشعرية في الخليج العربي، وقد منحته لجنة التحكيم الجائزة لجهوده في تجديد شكل القصيدة وإيقاعاتها ومضامينها، بأنماطها الثلاثة (العمود، التفعيلة، والنثر)، فجعلها مرايا شعرية يبصر القارئ من خلالها مكابدات الإنسان العربي أنّى كان، وقد أخرجها من محليتها إلى رحابة الهم الإنساني العام.
وغداة إعلان وفاته نعاه وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات أنور قرقاش على حسابه في “تويتر” قائلاً: “فقدت الإمارات الأديب المبدع وصاحب القلم العاقل والجريء الأستاذ حبيب الصايغ. يغيب عنا حبيب وهو في قمة عطائه الأدبي والفكري والوطني… سأفتقده صديقاً وقلماً مبدعاً”.