امتلأ «الإنترنت» مؤخراً بتسجيل للأصل الموسيقي الذي استقى منه الموسيقار الراحل الكبير مدحت عاصم أغنية شهيرة رددتها أسمهان في بداية مشوارها «يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرى لي»، كان مدحت واسع الاطلاع على الموسيقى الأجنبية، ولم تكن وقتها حقوق الملكية الفكرية مطبقة في عالمنا العربي، كما أن الناس لا تملك وسيلة للتعرف على ما ينتجه العالم من إبداع، خاصة لو كان بيننا وبينهم بحار ومحيطات، وهكذا رددت أسمهان الأغنية الأرجنتينية الأصل عام 1936 بينما الأغنية انطلقت قبلها بـ6 سنوات، ما فعله عاصم أنه كتب كلمات باللهجة المصرية على اللحن، وتجاوبت معه الأذن الشرقية، لم يحقق مدحت عاصم شهرة عريضة في مجال التلحين، ولكن يتذكره الكثير من المؤرخين لأنه أطلق أصواتاً مثل فريد الأطرش وشقيقته أسمهان وأيضاً ليلى مراد وغيرهم، وكان مسؤولاً عن الموسيقى والغناء مع بداية انطلاق الإذاعة المصرية الرسمية التابعة للدولة عام 1934. التقيت بالأستاذ مدحت عشرات المرات، وكان موسوعة فنية، تعرفت في بيته على العديد من عمالقة الإبداع، حيث كانوا يجتمعون في صالون منزله في الحي الراقي «الزمالك»، مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب والفنان التشكيلي صلاح طاهر والكاتب حسين فوزي الشهير بـ«السندباد»، والكاتب الفيلسوف زكي نجيب محمود وغيرهم.
ولم يحدث أن تناول معي الأستاذ مدحت حكاية «يا حبيبي الحقني»، فلم يتردد وقتها أي اتهام له بالسرقة حتى رحيله عام 1989. بينما عبد الوهاب لاحقته الكثير من تلك الاتهامات، إذ هناك رسائل علمية وثقتها، والتي من الممكن أن يعتبرها البعض مجرد تأثير أو استلهام، لأن القانون يحدد السرقة بعدد 6 موازير موسيقية، متتابعة، وما دون ذلك لا يعد سرقة.
الحقيقة لا تموت، مهما مر من زمن، أتذكر أن الموسيقار محمد الموجي، باح لي بهذا السر، بأنه صاحب لحن «أحبك وأنت هاجرني» المنسوب لمحمد عبد الوهاب، وأنه كان يُسمع عبد الوهاب اللحن بكلمات أخرى كتبها سمير محبوب، الشاعر الذي ارتبط بتأليف القسط الأكبر من أغنيات عبد الحليم، التي رددها في بداية المشوار، أطلق الموجي على الأغنية اسم «أنا عارف»، إلا أنه أراد أن يستأنس برأي أستاذه عبد الوهاب في اللحن، الذي طلب منه إعادته أكثر من مرة، وبعد نحو أسبوعين وقبل أن يغنيه عبد الحليم، فوجئ وهو يفتح الراديو بأن أستاذه غيّر الكلمات بأخرى كتبها حسين السيد، وعندما عاتبه قال له «افرض إن أب أعجب بـ(كرافت) لابنه واستعارها منه إيه المشكلة»، ونشرت الواقعة كما رواها لي الموجي، وعبد الوهاب على قيد الحياة، ولم يكذبها، خاصة أن الموجي كان محتفظاً بتسجيل اللحن الأصلي بصوته على العود.
وتتعدد قطعاً أساليب السرقات الفنية، ولا يجوز أن نطلق عليها كلها توصيف «سرقة»، ولكن أحياناً يصبح التعبير الصحيح «استلهاماً». مثلاً أغنية سيد درويش التي كتبها يونس القاضي «زوروني كل سنة مرة – حرام تنسوني بالمرة» وتكتشف مثلاً أن مطلع أغنية عبد الحليم التي حققت له الشهرة في البداية ومن تلحين الموجي «صافيني مرة – وجافيني مرة – ولا تنسيش كده بالمرة» تأثر فيها الكاتب سمير محبوب بكلمات يونس القاضي، وبالطبع غير قليلاً، لم تكن كما نطلق عليها بالتعبير المصري الشهير «نقل مسطرة»، مثلما حدث مع أسمهان «يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرى لي»، التي كانت «مسطرة».
جريدة الشرق الاوسط