من رواية إلى أخرى، يتابع الكاتب الجزائري الفرنكوفوني ياسمينة خضرا (واسمه الحقيقي محمد مولسهول) استكشافه موضوع الشر. ولكن في روايته الأخيرة، «خليل»، التي صدرت حديثاً عن دار «جوليار» الباريسية، يدعونا إلى ليس أقل من الانزلاق تحت جلد إرهابي من أجل فهم الدوافع التي تحثّه على ارتكاب الأذى، من دون إلقاء أيّ حكم أخلاقي عليه.
طبعاً، ليست المرة الأولى التي يتناول خضرا فيها موضوع الإرهاب. ففي العقد السابق، رصد له ثلاثية شهيرة تتألف من «سنونوات كابول» (2002)، «الاعتداء» (2005) و «صفارات إنذار بغداد» (2006). لكن بخلاف هذه الروايات التي تدور أحداثها في المنطقة الملتهبة، تنتقل روايته الأخيرة إلى أوروبا وتنطلق أحداثها في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، أي في اليوم الذي تعرّضت فيه باريس لسلسلة من الاعتداءات الإرهابية التي حصدت عشرات الأبرياء، ونتلقّى سرديتها من وجهة نظر واحد من المتورّطين فيها.
ففي ذلك اليوم، كان من المفترض على بطلها، خليل، أن يفجّر نفسه في محطة «ستاد دو فرانس» حيث ملعب كرة القدم في بلدة سان دوني المحازية لباريس. ومع أنه ضغط مراراً على زر حزامه الناسف بين الجماهير، لكن لم يحدث أي شيء. وإذ به يجد نفسه معزولاً عن «أخوته»، وحيداً في باريس الغارقة في سديم الاعتداءات الأخرى التي وقعت فيها، عاجزاً عن تفسير فشله. وبينما كان يرى نفسه قبل لحظات في موقع «الشهيد المبجَّل»، ها هو الآن في حلّة الجبان. كيف يعود إلى داره؟ كيف سيتحمّل احتقار الناس ومحيطه لأولئك الذين سقطوا في سبيل «قضيته»؟
ما أن يتمكن خليل من معاودة الاتصال بـ «أخوته»، يتم إفهامه بأن صانع الأحزمة الناسفة ارتكب خطأً وسلّمه حزاماً مرصوداً للتدريب. هل أن المنظّمة التي ينتمي إليها كانت تمتحنه لتقييم تصميمه والتأكد من جهوزيّته؟ مهما يكن، يبقى خليل في قيد الحياة، بخلاف صديق طفولته إدريس الذي أنجز في ذلك اليوم مهمته وبات يستحق صفة «شهيد». ولذلك، يقرر العودة إلى مكان إقامته وفهم ما حصل معه، واعداً نفسه بالنجاح في العملية المقبلة من «الانتقام من أولئك الذين حطّوا من قيمته».
لكن مَن هو خليل؟ إنه شاب بلجيكي غادر والداه المغربيان وطنهما إلى أوروبا لتأمين مستقبلٍ آخر لأولادهما ومنحهم فُرَص حياةٍ أفضل. لكن بخلاف أختيه، فشل هذا الشاب في بناء نفسه والعثور على طريق يخرجه من بلدة «مولينبيك» البلجيكية التي ترعرع فيها، والشهيرة بفقرها ومتطرّفيها، وبالتالي من بؤس حياته المادّي والفكري والروحي. ومن كثرة ما سمع داخل محيطه أنه لن يكون أبداً بلجيكياً في شكلٍ كلّي، انتهى به المطاف مغسول الدماغ على يد داعية متطرّف ما لبث أن جنّده مع شبّان آخرين لتنفيذ عمليات انتحارية.
ولا عجب في وقوع خليل ضحية هذا الداعية، فحين يتوارى الأمل فينا، حين يصير عالمنا غريباً عنّا، حين يفقد مستقبلنا معناه، يصبح من الصعب رفض الذراعين المفتوحتين لتلك «العائلة» التي تعدنا بالارتقاء بنا وتحويلنا إلى كائنات «منوَّرة» وجديدة: «ستصبح أخاً لنا وتسير برأس مرفوع بين الناس، مثل سيّد. ادفن المواطن المتخلِّف الذي كنتَه، فأنت صرّة الكون». كلمات يسمعها خليل من الداعية المذكور فيفقد كل شيء آخر أهميته، في نظره. كل شيء ما عدا أخته التوأم التي تشكّل الشخص الوحيد الذي ما زال يربطه بالحياة.
ولذلك، حين يختطف «أخوته» منه هذه الأخت، التي ستموت في عملية انتحارية داخل واحدة من محطات المترو في بروكسل، يبدأ خليل، المقتنع بضرورة محاربة «الكفّار»، بمساءلة نفسه والشكّ بقناعاته. وتدريجاً، تخرجه الكلمات التي سمعها من صديق آخر له من سباته الفكري: «الواجب هو أن نعيش ونترك الآخرين يعيشون. لا شيء أثمن من الحياة ولا يحقّ لأحد أن يمسّ بها»، فيختار في النهاية، على حساب مستقبله، «ترك الآخرين يعيشون» على أرض أجداده، أي المغرب حيث يُكلّف القيام بعملية انتحارية ثانية.
وعلى طول الرواية، يراودنا سؤال بديهي: هل كان بإمكان خليل تجنّب هذه التجربة الرهيبة؟ لا شيء مؤكّداً، يجيب الكاتب الذي يسعى في نصّه إلى إظهار أننا لا نولد إرهابيين، بل نعانق الإرهاب بفعل تقاطُر مجموعة من الظروف، ومسارات بعض شخصيات روايته تعزّز هذه القراءة. لكن في سعيه هذا، يتّخذ خضرا قرارَين لا يخلوان من المجازفة: الأول يقضي بالتزام الحياد في سرديته تجاه خليل، وهو ما يجعلنا نتعلّق بهذا الشاب ونقلق لمصيره، لكن من دون مشاركته وجهة نظره، وما يستحضر إلى أذهاننا رواية «بدمٍ بارد» لترومان كابوتي. فبدمٍ بارد ينزلق الكاتب تحت جلد خليل، محللاً بطريقة شبه عيادية شخصيته والدوافع التي حثّته على تقبّل فكرة القتل ووضعها موضع التنفيذ. وفي هذا السياق، يتتبّع خيط حياته مستخلصاً في طريقه الأسباب التي تجعل شاباً غير سيء أو شرير في طبيعته يفضّل الموت على الحياة.
وفي معرض كشفه هذه الأسباب، لا يتوانى خضرا عن تعرية جميع المتورطّين في شِرك الإرهاب القاتل: الأهل الذين لا يعيرون اهتماماً كافياً لأزمة أولادهم، الشبّان الذين يستسهلون الوقوف في موقع الضحية بدلاً من التسلّح بإرادتهم للخروج من مأزق حياتهم، المجتمعات التي تصنّف أفرادها وتعزل بعضهم وتنبذهم وتهينهم، الحكومات التي تسمح للإنقسامات بالتعمّق وللكراهية بالتنامي بين المواطنين، وطبعاً المتطرّفين الذين يستغلّون ضعف جيلٍ شاب يبحث عن نقاط استدلاله لسدّ عطشهم إلى السلطة، وأحياناً لأسباب مادّية بحتة.
وهذا ما يقودنا إلى المجازفة الأخرى في «خليل»، ونقصد عدم التزام خضرا فيها ذلك الكليشيه الذي تقوم عليه روايات كثيرة قاربت موضوع الإرهاب، ويقضي بتصوير الشرق والغرب كنقيضين، بل تجرّؤه على طرح سؤال بديهي غالباً ما يتمّ تجنّبه (كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟) ومحاولته الإجابة عنه بموضوعية تقوده إلى وضع وجهاً لوجه التطرّف الديني الذي يشرّع قتل الأبرياء، والأنظمة التي تولّد السلوك الراديكالي بجورها أو لا مبالاتها، وإلى كشف العلاقة العضوية بينهما.
وبقيامه بذلك، يبتعد خضرا عن صورة الإرهابي «الأبله والشرير» المسيَّرة في روايته البوليسية «موريتوري» (1997) لتصوير بدقة مأساة شبّان ضواحي المدن الأوروبية الكبرى المحاصرَين بين الجنوح المتفشّي حولهم، وتلك «الجمعيات» التي تنشط لاستقطابهم تحت شعار الدين. ضواحي هي عبارة عن غيتوات يتخبّط الأفارقة والمغاربيين الذين يقطنونها بكثافة داخل بؤسهم من دون أن تقود الهوية الأوروبية التي يحملها معظمهم إلى مساواتهم في الحقوق مع جيرانهم «البيض».
باختصار، يقول خضرا بشجاعة في روايته إن ما يحصل من إرهاب في أوروبا منذ فترة هو مأساة أوروبية صرفة لا فائدة من نسبها أو ربطها بـ «الأصول». ولقول ذلك، يستعين بلغةٍ صاعقة في جمالياتها تمسك بأنفاسنا وتقودنا إلى أماكن لا نرغب أصلاً في زيارتها. لغة تساهم أيضاً بسطوتها في إرغامنا على إعادة النظر في مكتسباتنا وقناعاتنا، شرقيين كنّا أم غربيين.
جريدة الحياة