يقول سليمان فياض في مقدمة حكايته مع سيد قطب التي ناقشتها في الثلاث مقالات السابقة: «كثيراً ما كان يخالجني الشك في صلته بالعقاد. فأسلوب سيد فيه لمسات الاحتذاء للعقاد»!
هذا القول قاله ليدعي أنه لوذعي ألمعي، وفطن لمَّاح على نحو فريد ومتفرد. فالأدباء كان يخفى عليهم أن لسيد قطب «صلة» بالعقاد. أما هو، وفي مطلع شبابه كان «يشك» أن له صلة به. هذا الصلة الخفية والمجهولة بينهما لدى سائر الأدباء وشى بها عنده وحده أسلوب سيد قطب. ففراسته وتفرسه بالأساليب ونجابته في اقتفاء الأثر فيها هدته إلى أن أسلوب سيد فيه لمسات الاحتذاء بأسلوب العقاد. ولمسات الاحتذاء هذه قادته إلى «الشك» بأن ثمة صلة بينهما. ولقد وضع اكتشافه للصلة بينهما ضمن دائرة الشك، ولم يرفعه إلى مرتبة اليقين، ليضخّم من خطورة ما توصّل إليه. ويا لبرودة ما توصل إليه!
ما كان أغناه عن هذا التكلف الثقيل الذي جعله يأتي بطامتين:
الأولى أن صلة سيد قطب بالعقاد هي صلة جهيرة وتأثره به هو أمر مشهور، ولا يحتاج إلى كشف واكتشاف، فهو معلن في شعره وفي معاركه التي نصب نفسه فيها مدافعاً عن العقاد، ومعلن في كتاباته عن كتب العقاد الأدبية والإسلامية وفي كتابته عن دواوينه الشعرية. ومعلن في كتبه النقدية. إنه معلن عنه منذ أول عمل أدبي نقدي خطته يده، وهي محاضرته «مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر» التي ألقاها في مدرج دار العلوم عام 1932، حين كان طالباً في هذه الدار، وهي المحاضرة التي طبعها في كتيب عام 1933.
وكان في معاركه التي نصب نفسه فيها مدافعاً عن العقاد يجاهر بتلمذته للعقاد وتعصبه له. وقديماً قال عنه إسماعيل مظهر: إن أدبه طبعة ثانية من أدب العقاد… كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر.
الأخرى، أن أسلوب سيد قطب الكتابي مختلف جداً عن أسلوب العقاد في الكتابة، فأسلوب سيد قطب أسلوب صحافي موشّى برونق البلاغة وقوة البيان، أسلوب متدفق وسلس، وجاذب وجذاب. أما أسلوب العقاد فهو جاف وثقيل ووعر ومعقد.
وقد حدد سيد قطب حدود تأثير العقاد في أسلوبه الكتابي حين سأله أبو الحسن الندوي عن نقطة التحول في حياته الأدبية، في قوله: «لا شك أنني تلميذ من تلاميذ العقاد في الأدب والأسلوب الأدبي. وله عليَّ فضل في العناية بالتفكير أكثر من اللفظ. وهو الذي صرفني عن تقليد المنفلوطي والرافعي».
ويقصد بهذا القول أن تأثره بالعقاد من حيث الأسلوب الأدبي وآرائه في الأسلوب الأدبي الأمثل جعله لا يكتب على طريقة البلغاء الذين عاصرهم، والذين يعنون بجزالة اللفظ ونصاعة الديباجة والسبك المحكم وحلاوة الجرس في تنسيق العبارات وهندستها وموسقتها.
ما أردته من مناقشة حكاية سليمان فياض مع سيد قطب التي ذكرها في مقاله «سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين»، الذي أعاد نشره في كتابه «المثقفون… وجوه من الذاكرة» وفي كتابه «كتاب النميمة» أن أنبه إلى أن المعلومة التي تضمنتها، وهي أن سيد قطب جفا العقاد، لأن العقاد كتب مقدمة لكتاب محمد خليفة التونسي «بروتوكولات حكماء صهيون»، ورفض أن يكتب مقدمة لكتاب من كتبه، الذي قُدّر أنه إما أن يكون كتاب «التصوير الفني في القرآن»، وإما كتاب «مشاهد القيامة في القرآن»، هي معلومة لا يُعوّل عليها حتى وإن كان صادقاً فيما رواه في حكايته مع سيد قطب.
ولقد رأيتُ باحثين وصحافيين يأخذون بكل ما جاء من معلومات في ذلك المقال بالقبول، ويعتمدون عليه بوصفه مصدراً دقيقاً لجانب من تاريخ سيد قطب، مع أن المقال فيه ثغرات في معلوماته وفجوات في سرده الزمني. الحسنة الوحيدة في ذلك المقال هي تشخيصه الموفق لتأثر محمد قطب المفرط بأخيه سيد، فهو كما شخَّص حالته: «كان في كتاباته، بعد أن تحول سيد تحوله الأخير، مثل الصدى للصوت، والشارح للمتن، والحاشية للشرح، والهامش للنص، والذيل للفصل. كان يردد أفكار أخيه وربما تكون الفكرة فقرة، مجرد فقرة في كتاب، فتصبح تحت يده كتاباً لأخ ذاب في أخيه، وقارئ الضهر في مثله الأعلى. ومن المدهش والعجيب أنه كان يحتذيه في أسلوبه وألفاظه، وإيقاع جمله، حتى في هذه الحروف الممدودة في الكلمات الأخيرة من الجمل، أو الفقرات، قبل الحرف الأخير».
إن ما هو صحيح في حكاية سليمان فياض أن سيد قطب طلب من العقاد أن يكتب مقدمة لكتابه ولم يستجِب لطلبه. وهذا الكتاب هو كتابه «التصوير الفني في القرآن». وما هو صحيح أيضاً أن سيد قطب لعقدته العقادية التي عجز عن البرء منها شعر بالغيرة من محمد خليفة التونسي حين قرظ العقاد كتابه، بعد أيام من صدوره، لكن هذه الغيرة لم تكن هي الغيرة الأساسية أو الأصلية، لأنه حين قرظ العقاد كتاب التونسي كان سيد قطب قد جفا العقاد قبلها بسنوات واعتزله.
حين بحث علي شلش في كتابه «التمرُّد على الأدب» سبب الخلاف بين سيد قطب والعقاد لم يلتفت قصداً إلى ما قاله سليمان فياض في مقاله المنشور في مجلة «الهلال» في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1986. وذهب إلى سنة أبعد، وهي سنة 1946، فقال: «نشر العقاد افتتاحية بمجلة (الرسالة) في أكتوبر (تشرين الأول) 1946، أشاد فيها بكتاب (هذه هي الأغلال) للكاتب السعودي عبد الله القصيمي… واستهلَّها بقوله: (المسلمون في حاجة إلى جرعات قوية من قبيل هذه الجرعة التي ناولهم إياها صاحب الفضيلة الأستاذ عبد الله القصيمي)».
يستنتج علي شلش أن «هذه الافتتاحية أثارت غيرة التلميذ وسخطه معاً، لأنه كتب مقالاً حاداً نشره في (الرسالة) أيضاً بعنوان (غفلة النقد في مصر)، وفيه عدَّ كلّ ما أثير حول كتاب القصيمي (وهو في مثل سنه) قيمة مفتعلة، وعدّ الكتاب ذاته مريباً، بل قال إن (هذه القيمة المفتعلة التي انزلق فيها بعض الكتاب الكبار مخدوعين بما صوره لهم المؤلف من مخاوف تحيط به… فضيحة أدبية. وقد تؤخذ دليلاً على غفلة النقد فيها إلى حد مخجل). ومع أنه لم يذكر العقاد هنا بالاسم، فلا شك في قصده إياه، لأنه كان الكبير الذي انفرد بالكتابة عن الكتاب حتى ذلك التاريخ. ويبدو أن هذا التعريض بالعقاد وغمزه كان افتتاحية لمعزوفة من الغضب والشعور بالظلم، وهي معزوفة تصاعدت نبراتها حتى بلغت العنف، في ربيع 1947».
ويعني علي شلش هنا مقاله «معركة الضمير الأدبي»، الذي كان سبب إقالته من رئاسة تحرير مجلة «العالم العربي».
ويؤكد علي شلش في خاتمة كتابه مرة أخرى أن افتتاحية مجلة «الرسالة» التي كتبها العقاد في الإشادة بكتاب القصيمي هي التي أثارت غيرة التلميذ وسخطه معاً، ويشرح حالة سيد قطب فيقول: «وتبين له أيضاً أن الوحيد الذي توقع منه صدور ذلك أكثر من غيره (وهو العقاد) لم يعترف بجهده الأدبي، أو يشجعه على النحو العلني المنتظر، وقد اعترف العقاد بجهد بعض الشباب في تلك الفترة، وشجع بعضهم الآخر، ومن هؤلاء شباب لم يعرفهم معرفة وثيقة، مثل الكاتب السعودي عبد الله القصيمي الذي كتب عنه إحدى افتتاحيات مجلة (الرسالة)».
في تقديري أن غيرة سيد قطب من عبد الله القصيمي بسبب إشادة العقاد بكتابه أتت عاجلة، أما إعلان سخطه على العقاد من دون أن يسميه، فقد تريث فيه قليلاً.
العقاد كتب افتتاحية الإشادة بكتاب القصيمي بتاريخ 28 – 10 – 1946، وجعل عنوانها «هذه هي الأغلال». وبعد أسبوعين، هاجم سيد قطب عبد الله القصيمي وكتابه في مقال نُشِر بمجلة «السوادي» بتاريخ 11 – 11 – 1946، وكان عنوانه نفس عنوان مقال العقاد «هذه هي الأغلال»، لكنه لم يتعرض للعقاد بتعريض ولمز من بعيد كما سيفعل في المقال الذي أشار علي شلش إليه. وبتاريخ 2 – 12 – 1946 هاجم القصيمي وكتابه مرة ثانية في مجلة «الرسالة» بمقال عنوانه «من مفارقات التفكير: الأستاذ إسماعيل مظهر وكتاب الأغلال»، وأعاد فيه اتهام القصيمي بسرقة بعض أفكار كتاب عبد المنعم خلاف «أومن بالإنسان». وهذا المقال هو رد على ثناء إسماعيل مظهر على كتاب القصيمي في أكثر من مقال، في جريدة «الكتلة»، ورد على افتتاحية مجلة «المقتطف» الاحتفائية التي كتبها في الكتاب، المنشورة بتاريخ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1946. وفي هذا العدد كتب إسماعيل مظهر رئيس تحرير هذه المجلة دراسة احتفائية بالكتاب. ولمعرفة قدر الاحتفاء بالكتاب أنقل لكم قوله في الافتتاحية: «لعل هذه أول مرة في تاريخ هذه المجلة يعنى محرر من محرريها بكتاب يصدر فيخصص له الصفحات الأولى منها. هذه أول مرة يفرد (المقتطف) افتتاحية لكتاب يصدر في الشرق أو الغرب. ولا شك أن ذلك يرجع إلى أن هذا الكتاب هو في تقديرنا يستحق هذه المنزلة، وله أن يحتل هذه المكانة».
في رد سيد قطب على إسماعيل مظهر كان متلطفاً معه، وتعامل معه بتقدير واحترام لثقافته الغربية الحديثة، رغم أنه كان حانقاً جداً على احتفائه بكتاب القصيمي، ورغم أنهما كانا قد تبادلا كلاماً قارصاً في مجلة «الرسالة» عام 1938، كان البادئ فيه سيد قطب.
وفي تصنيف نوع هذا الرد، هو عتب على إسماعيل مظهر أكثر منه نقداً له على احتفائه بالقصيمي وكتابه. وبروح المعاتبة قال في الأسطر الأخيرة: «وبدلاً من أن ينبه النقاد الكبار إلى هذا الاتجاه المريب يؤخذون بالدعاوى المفتعلة، ويبذلون إعجابهم المطلق للكتاب وصاحب الكتاب! والرجل والحق يقال: ماهر في الدعاية، لا تقيده فيها الأغلال!!».
وقد ينصرف الفهم إلى أن عبارة النقاد الكبار يعني بها إسماعيل مظهر، لكنه كان يعني بها مظهر والعقاد، وبالدرجة الأولى يعني بها العقاد. فمظهر لم يكن هو يحفل به، ولم يكن ضمن شيوخ الأدب الذين كان يتودد إليهم، بل كان الاثنان على علاقة غير ودية.
وبتاريخ 16 – 12 – 1946 كتب سيد قطب استناداً إلى الفكرة المعاتبة في ذينك السطرين مقاله الانفعالي والمحتدم والحانق والساخط «غفلة النقد في مصر»، الذي كما بيّن علي شلش لمز العقاد فيه. كتب هذا المقال بتلك الصورة الموتورة مع انفجار سخطه المكتوم والملجوم على أستاذه العقاد. وبحسب التسلسل الزمني الذي رتبت فيه ظهور مقالات سيد قطب الأولى في الهجوم على القصيمي وكتابه يتضح لكم ما أعنيه بأن غيرته من القصيمي كانت عاجلة، وأن إعلان سخطه على أستاذه المعبود كان آجلاً. وللحديث بقية.
هذا القول قاله ليدعي أنه لوذعي ألمعي، وفطن لمَّاح على نحو فريد ومتفرد. فالأدباء كان يخفى عليهم أن لسيد قطب «صلة» بالعقاد. أما هو، وفي مطلع شبابه كان «يشك» أن له صلة به. هذا الصلة الخفية والمجهولة بينهما لدى سائر الأدباء وشى بها عنده وحده أسلوب سيد قطب. ففراسته وتفرسه بالأساليب ونجابته في اقتفاء الأثر فيها هدته إلى أن أسلوب سيد فيه لمسات الاحتذاء بأسلوب العقاد. ولمسات الاحتذاء هذه قادته إلى «الشك» بأن ثمة صلة بينهما. ولقد وضع اكتشافه للصلة بينهما ضمن دائرة الشك، ولم يرفعه إلى مرتبة اليقين، ليضخّم من خطورة ما توصّل إليه. ويا لبرودة ما توصل إليه!
ما كان أغناه عن هذا التكلف الثقيل الذي جعله يأتي بطامتين:
الأولى أن صلة سيد قطب بالعقاد هي صلة جهيرة وتأثره به هو أمر مشهور، ولا يحتاج إلى كشف واكتشاف، فهو معلن في شعره وفي معاركه التي نصب نفسه فيها مدافعاً عن العقاد، ومعلن في كتاباته عن كتب العقاد الأدبية والإسلامية وفي كتابته عن دواوينه الشعرية. ومعلن في كتبه النقدية. إنه معلن عنه منذ أول عمل أدبي نقدي خطته يده، وهي محاضرته «مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر» التي ألقاها في مدرج دار العلوم عام 1932، حين كان طالباً في هذه الدار، وهي المحاضرة التي طبعها في كتيب عام 1933.
وكان في معاركه التي نصب نفسه فيها مدافعاً عن العقاد يجاهر بتلمذته للعقاد وتعصبه له. وقديماً قال عنه إسماعيل مظهر: إن أدبه طبعة ثانية من أدب العقاد… كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر.
الأخرى، أن أسلوب سيد قطب الكتابي مختلف جداً عن أسلوب العقاد في الكتابة، فأسلوب سيد قطب أسلوب صحافي موشّى برونق البلاغة وقوة البيان، أسلوب متدفق وسلس، وجاذب وجذاب. أما أسلوب العقاد فهو جاف وثقيل ووعر ومعقد.
وقد حدد سيد قطب حدود تأثير العقاد في أسلوبه الكتابي حين سأله أبو الحسن الندوي عن نقطة التحول في حياته الأدبية، في قوله: «لا شك أنني تلميذ من تلاميذ العقاد في الأدب والأسلوب الأدبي. وله عليَّ فضل في العناية بالتفكير أكثر من اللفظ. وهو الذي صرفني عن تقليد المنفلوطي والرافعي».
ويقصد بهذا القول أن تأثره بالعقاد من حيث الأسلوب الأدبي وآرائه في الأسلوب الأدبي الأمثل جعله لا يكتب على طريقة البلغاء الذين عاصرهم، والذين يعنون بجزالة اللفظ ونصاعة الديباجة والسبك المحكم وحلاوة الجرس في تنسيق العبارات وهندستها وموسقتها.
ما أردته من مناقشة حكاية سليمان فياض مع سيد قطب التي ذكرها في مقاله «سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين»، الذي أعاد نشره في كتابه «المثقفون… وجوه من الذاكرة» وفي كتابه «كتاب النميمة» أن أنبه إلى أن المعلومة التي تضمنتها، وهي أن سيد قطب جفا العقاد، لأن العقاد كتب مقدمة لكتاب محمد خليفة التونسي «بروتوكولات حكماء صهيون»، ورفض أن يكتب مقدمة لكتاب من كتبه، الذي قُدّر أنه إما أن يكون كتاب «التصوير الفني في القرآن»، وإما كتاب «مشاهد القيامة في القرآن»، هي معلومة لا يُعوّل عليها حتى وإن كان صادقاً فيما رواه في حكايته مع سيد قطب.
ولقد رأيتُ باحثين وصحافيين يأخذون بكل ما جاء من معلومات في ذلك المقال بالقبول، ويعتمدون عليه بوصفه مصدراً دقيقاً لجانب من تاريخ سيد قطب، مع أن المقال فيه ثغرات في معلوماته وفجوات في سرده الزمني. الحسنة الوحيدة في ذلك المقال هي تشخيصه الموفق لتأثر محمد قطب المفرط بأخيه سيد، فهو كما شخَّص حالته: «كان في كتاباته، بعد أن تحول سيد تحوله الأخير، مثل الصدى للصوت، والشارح للمتن، والحاشية للشرح، والهامش للنص، والذيل للفصل. كان يردد أفكار أخيه وربما تكون الفكرة فقرة، مجرد فقرة في كتاب، فتصبح تحت يده كتاباً لأخ ذاب في أخيه، وقارئ الضهر في مثله الأعلى. ومن المدهش والعجيب أنه كان يحتذيه في أسلوبه وألفاظه، وإيقاع جمله، حتى في هذه الحروف الممدودة في الكلمات الأخيرة من الجمل، أو الفقرات، قبل الحرف الأخير».
إن ما هو صحيح في حكاية سليمان فياض أن سيد قطب طلب من العقاد أن يكتب مقدمة لكتابه ولم يستجِب لطلبه. وهذا الكتاب هو كتابه «التصوير الفني في القرآن». وما هو صحيح أيضاً أن سيد قطب لعقدته العقادية التي عجز عن البرء منها شعر بالغيرة من محمد خليفة التونسي حين قرظ العقاد كتابه، بعد أيام من صدوره، لكن هذه الغيرة لم تكن هي الغيرة الأساسية أو الأصلية، لأنه حين قرظ العقاد كتاب التونسي كان سيد قطب قد جفا العقاد قبلها بسنوات واعتزله.
حين بحث علي شلش في كتابه «التمرُّد على الأدب» سبب الخلاف بين سيد قطب والعقاد لم يلتفت قصداً إلى ما قاله سليمان فياض في مقاله المنشور في مجلة «الهلال» في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1986. وذهب إلى سنة أبعد، وهي سنة 1946، فقال: «نشر العقاد افتتاحية بمجلة (الرسالة) في أكتوبر (تشرين الأول) 1946، أشاد فيها بكتاب (هذه هي الأغلال) للكاتب السعودي عبد الله القصيمي… واستهلَّها بقوله: (المسلمون في حاجة إلى جرعات قوية من قبيل هذه الجرعة التي ناولهم إياها صاحب الفضيلة الأستاذ عبد الله القصيمي)».
يستنتج علي شلش أن «هذه الافتتاحية أثارت غيرة التلميذ وسخطه معاً، لأنه كتب مقالاً حاداً نشره في (الرسالة) أيضاً بعنوان (غفلة النقد في مصر)، وفيه عدَّ كلّ ما أثير حول كتاب القصيمي (وهو في مثل سنه) قيمة مفتعلة، وعدّ الكتاب ذاته مريباً، بل قال إن (هذه القيمة المفتعلة التي انزلق فيها بعض الكتاب الكبار مخدوعين بما صوره لهم المؤلف من مخاوف تحيط به… فضيحة أدبية. وقد تؤخذ دليلاً على غفلة النقد فيها إلى حد مخجل). ومع أنه لم يذكر العقاد هنا بالاسم، فلا شك في قصده إياه، لأنه كان الكبير الذي انفرد بالكتابة عن الكتاب حتى ذلك التاريخ. ويبدو أن هذا التعريض بالعقاد وغمزه كان افتتاحية لمعزوفة من الغضب والشعور بالظلم، وهي معزوفة تصاعدت نبراتها حتى بلغت العنف، في ربيع 1947».
ويعني علي شلش هنا مقاله «معركة الضمير الأدبي»، الذي كان سبب إقالته من رئاسة تحرير مجلة «العالم العربي».
ويؤكد علي شلش في خاتمة كتابه مرة أخرى أن افتتاحية مجلة «الرسالة» التي كتبها العقاد في الإشادة بكتاب القصيمي هي التي أثارت غيرة التلميذ وسخطه معاً، ويشرح حالة سيد قطب فيقول: «وتبين له أيضاً أن الوحيد الذي توقع منه صدور ذلك أكثر من غيره (وهو العقاد) لم يعترف بجهده الأدبي، أو يشجعه على النحو العلني المنتظر، وقد اعترف العقاد بجهد بعض الشباب في تلك الفترة، وشجع بعضهم الآخر، ومن هؤلاء شباب لم يعرفهم معرفة وثيقة، مثل الكاتب السعودي عبد الله القصيمي الذي كتب عنه إحدى افتتاحيات مجلة (الرسالة)».
في تقديري أن غيرة سيد قطب من عبد الله القصيمي بسبب إشادة العقاد بكتابه أتت عاجلة، أما إعلان سخطه على العقاد من دون أن يسميه، فقد تريث فيه قليلاً.
العقاد كتب افتتاحية الإشادة بكتاب القصيمي بتاريخ 28 – 10 – 1946، وجعل عنوانها «هذه هي الأغلال». وبعد أسبوعين، هاجم سيد قطب عبد الله القصيمي وكتابه في مقال نُشِر بمجلة «السوادي» بتاريخ 11 – 11 – 1946، وكان عنوانه نفس عنوان مقال العقاد «هذه هي الأغلال»، لكنه لم يتعرض للعقاد بتعريض ولمز من بعيد كما سيفعل في المقال الذي أشار علي شلش إليه. وبتاريخ 2 – 12 – 1946 هاجم القصيمي وكتابه مرة ثانية في مجلة «الرسالة» بمقال عنوانه «من مفارقات التفكير: الأستاذ إسماعيل مظهر وكتاب الأغلال»، وأعاد فيه اتهام القصيمي بسرقة بعض أفكار كتاب عبد المنعم خلاف «أومن بالإنسان». وهذا المقال هو رد على ثناء إسماعيل مظهر على كتاب القصيمي في أكثر من مقال، في جريدة «الكتلة»، ورد على افتتاحية مجلة «المقتطف» الاحتفائية التي كتبها في الكتاب، المنشورة بتاريخ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1946. وفي هذا العدد كتب إسماعيل مظهر رئيس تحرير هذه المجلة دراسة احتفائية بالكتاب. ولمعرفة قدر الاحتفاء بالكتاب أنقل لكم قوله في الافتتاحية: «لعل هذه أول مرة في تاريخ هذه المجلة يعنى محرر من محرريها بكتاب يصدر فيخصص له الصفحات الأولى منها. هذه أول مرة يفرد (المقتطف) افتتاحية لكتاب يصدر في الشرق أو الغرب. ولا شك أن ذلك يرجع إلى أن هذا الكتاب هو في تقديرنا يستحق هذه المنزلة، وله أن يحتل هذه المكانة».
في رد سيد قطب على إسماعيل مظهر كان متلطفاً معه، وتعامل معه بتقدير واحترام لثقافته الغربية الحديثة، رغم أنه كان حانقاً جداً على احتفائه بكتاب القصيمي، ورغم أنهما كانا قد تبادلا كلاماً قارصاً في مجلة «الرسالة» عام 1938، كان البادئ فيه سيد قطب.
وفي تصنيف نوع هذا الرد، هو عتب على إسماعيل مظهر أكثر منه نقداً له على احتفائه بالقصيمي وكتابه. وبروح المعاتبة قال في الأسطر الأخيرة: «وبدلاً من أن ينبه النقاد الكبار إلى هذا الاتجاه المريب يؤخذون بالدعاوى المفتعلة، ويبذلون إعجابهم المطلق للكتاب وصاحب الكتاب! والرجل والحق يقال: ماهر في الدعاية، لا تقيده فيها الأغلال!!».
وقد ينصرف الفهم إلى أن عبارة النقاد الكبار يعني بها إسماعيل مظهر، لكنه كان يعني بها مظهر والعقاد، وبالدرجة الأولى يعني بها العقاد. فمظهر لم يكن هو يحفل به، ولم يكن ضمن شيوخ الأدب الذين كان يتودد إليهم، بل كان الاثنان على علاقة غير ودية.
وبتاريخ 16 – 12 – 1946 كتب سيد قطب استناداً إلى الفكرة المعاتبة في ذينك السطرين مقاله الانفعالي والمحتدم والحانق والساخط «غفلة النقد في مصر»، الذي كما بيّن علي شلش لمز العقاد فيه. كتب هذا المقال بتلك الصورة الموتورة مع انفجار سخطه المكتوم والملجوم على أستاذه العقاد. وبحسب التسلسل الزمني الذي رتبت فيه ظهور مقالات سيد قطب الأولى في الهجوم على القصيمي وكتابه يتضح لكم ما أعنيه بأن غيرته من القصيمي كانت عاجلة، وأن إعلان سخطه على أستاذه المعبود كان آجلاً. وللحديث بقية.