نهاية الربيع الحالي، قامت دار”غاليمار” الفرنسية ضمن سلسلة ”البلياد” الشهيرة المخصصة لكبار الكتاب والشعراء والفلاسفة من جميع أنحاء العالم، ومن القدماء والمحدثين، بإصدار المجلد الأول من أعمال سيمون دي بوفوار، رفيقة جان بول سارتر، لتكون فرصة للاطلاع على مسار حياة وإبداع الكاتبة.
كانت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار تهدف من خلال أعمالها الأدبية والفكرية التي أعيدت طباعتها عن دار غاليمار مؤخرا، إلى “تبديد الخداع، وقول الحقيقة”، محاولة أن تجعل من حياتها ”تجربة مثالية عاكسة للعالم بأسره”.
لذا كانت مساندة لحركة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، وكانت إلى جانب سارتر عند تأسيسه لمجلة “الأزمنة الحديثة” المدافعة عن الفلسفة الوجودية، وعن الحرية والديمقراطية بصفة عامة، والمنتقدة للجوانب المعتمة للرأسمالية. وكانت دي بوفوار ضمن المثقفين الفرنسيين الذين ناهضوا الاحتلال الفرنسي للجزائر، وطالبوا باستقلالها في حين كانت الحرب تحرق الأخضر واليابس على أراضيها. كما كانت ضد حرب فيتنام.
تأثير الحرب
في كتابها “الجنس الثاني”، وضعت دي بوفوار الأسس الأولى التي قامت عليها الحركة النسوية في العالم الغربي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وفي عام 1970، وبعد أن هدأت ثورة ربيع مايو الطلابية، شاهدها الناس توزع مع جان بول سارتر جريدة “قضية الشعب” اليسارية المتطرفة، التي كانت الناطقة باسم الشبيبة الماوية (نسبة إلى الزعيم الصيني ماوتسي تونغ). لذلك قد يكونون على حق أولئك الذين سموها “باسيوناريا” القرن العشرين.
الدفاتر التي دونتها دي بوفوار في الجامعة بمثابة التمارين اليومية التي تقوم بها لتكون المرأة التي تحلم أن تكونها
وقد ولدت سيمون دي بوفوار عام 1908 من أب ينحدر من عائلة نبيلة، ومن أم تنتسب إلى عائلة غنية من منطقة “فاردان”. وكان الأب لائكيا، عاشقا للمسرح والأدب. أما الأم فكانت محافظة، ومتمسّكة بالتقاليد. وفي سنوات المراهقة، ارتبطت دي بوفوار بفتاة تدعى إليزابيت لاكوان، وعنها سوف تتحدث كثيرا في كتابها “ذكريات فتاة رصينة”. وفي الوقت نفسه، اشتدت الخلافات بينها وبين والديها، وبدأت تبحث عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي.
عقب حصولها على الباكالوريا وذلك عام 1924، انتسبت دي بوفوار إلى جامعة “السربون”- قسم الفلسفة- وأثناء سنوات الطلب في الجامعة، انشغلت بكتابة يومياتها التي سمتها “دفاتر الشباب”، وفيها كتبت تقول “سوف أؤسس قوة ألجأ إليها إلى الأبد”. ولم تكن هذه القوة غير الأدب الذي سوف يصبح العنصر الأساسي في حياتها حتى النهاية. وسوف تكون هذه الدفاتر بمثابة التمارين اليومية التي تقوم بها لكي تكون المرأة والكاتبة التي تطمح أن تكونها.
وفي جامعة “السربون”، تعرفت دي بوفوار على مارلو بونتي الذي سيكون في ما بعد واحدا من أهم الفلاسفة الوجوديين. إلاّ أن لقاءها بجان بول سارتر مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، هو الذي سوف يُحدث مُنعرجا هائلا في حياتها كامرأة، وككاتبة، وكمفكرة. وفي بدايات هذا اللقاء، كتبت دي بوفوار تقول “كان سارتر يجيب بالضبط على تمنياتي وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وكان الصّنو الذي كنت أعثر فيه من جديد، على جميع ميولي المفرطة”.
عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، جنّد سارتر وأرسل في الحين إلى الجبهة. أما دي بوفوار فقد واصلت تدريس الفلسفة في المعاهد الثانويّة، مهتمة بالخصوص بالتلميذات الذكيات والجميلات، وغير عابئة بالأخريات. وكانت تعيش حياتها وكأن شيئا لم يقع، وكأن باريس لم تحتل من قبل النازيين.
في عام 1941، عاد سارتر إلى باريس بعد أن أمضى أشهرا طويلة في الأسر. وعندما التقى بسيمون دي بوفوار، شرع يحرضها على الخروج من حالة الفراغ الثقافي التي كانت تعيشها، طالبا منها الانخراط مثله في النضال ضد النازية. وفي ما بعد سوف تقول دي بوفوار “للأسف الشديد، كان لا بد من اندلاع الحرب لكي أعلم أنني أعيش في العالم، وليس خارجه”.
بعد نهاية الحرب، في باريس الضاحكة، السعيدة بحياتها الجديدة، كان سارتر وسيمون دي بوفوار يتحركان وكأنهما بطلان. وكان المعجبون يتحلقون حولهما في مقاهي “السان جارمان -دي- بريه”، وساحة “الأوديون” وهم متلهفون لسماع كل كلمة ينطقان بها، وكل فكرة يطلقانها. ولأنهما شعرا بالأهمية الكبيرة التي أصبحا يحظيان بها في المشهد الثقافي والفكري، فإن سارتر ودي بوفوار سارعا بتأسيس مجلة “الأزمنة الحديثة” التي ستصبح حال صدورها، أرقى مجلة فكرية وأدبية عرفتها فرنسا عقب الحرب الكونية الثانية.
بعد نهاية الحرب، في باريس السعيدة بحياتها الجديدة، كان سارتر وسيمون دي بوفوار يتحركان وكأنهما بطلان
بعد نهاية الحرب، في باريس السعيدة بحياتها الجديدة، كان سارتر وسيمون دي بوفوار يتحركان وكأنهما بطلان
أن تكون امرأة
في عام 1949، أصدرت سيمون دي بوفوار “الجنس الثاني” الذي سوف يكون واحدا من أهم الكتب التي ألفتها خلال مسيرتها الأدبية والفكرية الطويلة. وقد أثار هذا الكتاب موجة عارمة من الغضب والسخط داخل الأوساط الأدبية والثقافية في فرنسا. فقد اتهم ألبير كامو سيمون دي بوفوار بأنها “تمس من شرف الرجال الفرنسيين”.
ومخاطبا واحدا من المساهمين في مجلة “الأزمنة الحديثة”، قال الكاتب الفرنسي فرنسوا مورياك “لقد أصبحت أعرف كل شيء عن الثياب الداخلية لصاحبتكم”، وعلق الحزب الشيوعي الفرنسي على الكتاب قائلا إنه سوف “يسلّي ويضحك عاملات بيونكور”.
وقد ردت سيمون دي بوفوار على التهجمات والانتقادات التي انهالت عليها عقب صدور “الجنس الثاني”، قائلة “ماذا يعني بالنسبة إلي أن أكون امرأة؟ أبدا لم أشعر بالدونية لكوني امرأة. وأنوثتي لم تكن تسبب لي أي شعور بالنقص”.
بعد وفاة سارتر عام 1980، أصدرت سيمون دي بوفوار كتابا حمل عنوان “موكب التوديع”، وفيه تستعرض علاقاتها به خلال السنوات العشر الأخيرة التي سبقت وفاته. كما تروي بدقة متناهية التدهور الصحي والجسدي لرفيق حياتها، مُدينة ألاعيب بني ليفي، المثقف اليهودي الذي كان تروتسكيا (نسبة إلى ليون تروتسكي) ثم أصبح صهيونيا متطرفا.
وقد حاول بني ليفي استدراج سارتر إلى أفكاره الصهيونية الشيء الذي أثار غضب سيمون دي بوفوار. وفي كتاب “موكب التوديع” نقرأ ما يلي “موته يفصلنا، موتي لن يجمعني وإياه. هكذا هو الأمر. وعلى أي حال، لقد كان رائعا أن تتوافق حياتي مع حياته لفترة طويلة”.
وكانت قد مرت ستة أعوام بالضبط على وفاة جان بول سارتر، عندما لفظت سيمون دي بوفوار أنفاسها لتدفن في ثوب أحمر، وفي إصبعها الخاتم الفضي الذي كان قد أهداه إياها عشيقها الأميركي نيلسون الغرين. وقد رافق جثمانها إلى مقبرة “مونبارناس” آلاف الناس من المعجبين والمعجبات.