قبل عقدين فاجأنَا الروائي الكبير أمين معلوف بكتابه أو رسالته: «الهويات القاتلة». ووقتها كانت دهشة المراجعين والنقّاد لأمرين اثنين؛ الأصول النظرية المقارنة لهذا الموضوع الشديد الحساسية في العالم المعاصر، والأمر الآخر أن كاتبها روائي بارز، وقليلاً ما يكتب الروائيون دراساتٍ نظرية. بيد أنّ الأمر ما عاد غريباً ولا جديداً الآن بعد صدور التأمليتين الكبريين له: «اختلال العالم» قبل سنواتٍ قليلة، و«غرق الحضارات» الآن.
منذ البدايات شغل موضوع «الآخَر» أمين معلوف، أي منذ روايته «التاريخية» عن الحروب الصليبية وكيف رآها العرب. لكنّ قضيته مع الآخَرية والهوية ليست الغربة والغرابة والفشل كما هي عند سائر الروائيين العرب المحدَثين والمعاصرين. فسواء في رواياته أو في رؤاه المقارنة داخل الثقافات والحضارات أو فيما بينها لا يُهمُّهُ التمايُزُ بقدر ما تُهمُّهُ محاولاتُ الذوات واحتيالاتها من أجل التواصُل الذي قد يكون مصلحياً، لكنه في النهاية عميق وإنساني. الهوية إحساسٌ عميقٍ بالخصوصية والتمايُز والاختلاف لدى الأفراد والجماعات. لكنها تتضمن احتياجاً عميقاً للآخر، سواء أَوَعاهُ المتشبث بالهوية والخصوصية أم لم يَعِهْ. وهو في حفرياته (وأنا أفضّل في تجربة معلوف: التأمليات) قليلاً ما يُصدرُ أحكاماً عامة أو شاملة. ولكن لننظر إلى هذا الحكم القيمي العام: في العصور الوسطى (إذا صحَّ التعبير وهو لديه غير دقيق) كانت الهوية الأوروبية أو الغربية الدينية أكثر ضيقاً وعصبية، بينما كانت الهوية أو الذاتية الإسلامية أكثر اتساعاً ورحابة وتسامُحاً. والعكس صحيحٌ في القرون الأخيرة، والزمن المعاصر. الهويات إذن موجودة وفاعلة على الدوام، لكنْ لماذا تتوتّر وتُصارع وتنكمش حيناً، وتنفتح وتهدأ وتسعى للتواصل والتصالح حيناً آخر؟ هل النجاح الفردي أو العام، هو الذي يزيح الغربة والغرابة جانباً، وهو شأن الحضارة الإسلامية قديماً، والحضارة الأوروبية أو الغربية حديثاً؟ والأمر ذاته بالنسبة إلى الروائيين والمثقفين العرب في العلاقة بالغرب اليوم، حيث يظلُّون غرباء في علاقاتهم فيحكمون على تجربتهم بالفشل، أو حتى على الأوروبيات والأميركيات بالفشل معهم! ومعلوف يعي بالطبع اختلافه، لكنه يعي أكثر تعدديته وعالميته، فهل يعود ذلك لنجاحه ونجاح تجربته الأوروبية في الثقافة والتواصُل والبروز؟ لكنّ فوكوياما في كتابه عن الهوية (2016) يربطها بالكرامة من جهة، ويقول إنّ النجاح الهوياتي يدفع أحياناً للتشدد والانغلاق بسبب الانجراحات التاريخية العميقة الغور، وبسبب عدم الوثوق باستمرار النجاح لتربُّص الآخرين ومؤامراتهم. والواقع أنّ الثوران المتعصب في الديانات الآسيوية التي تصعدُ أُممها وشعوبها حداثياً واقتصادياً تدعو للتأمُّل والمراجعة. في «سمرقند» لأمين معلوف هناك حديثٌ لإحدى الشخصيات عن الأكثرية التي تتعامل بعقلية الأقلية الخائفة. ولدينا نموذج روائي وكاتب هو نايبول مولود بترينداد من أصل هندي، وقد حصل على جائرة نوبل، وهذا نموذج للنجاح، لكنه كوَّن شرنقة هائلة التعصب على الإسلام والمسلمين بوصفهم وباءً في آسيا وعلى العالم!
في «اختلال العالم» و«غرق الحضارات» يتجاوز معلوف إشكاليات الهوية إلى التصدعات التي نالت من نظام العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ثم يكشف له في كتابه الأخير أنّ الأمر لا يتعلق بانكسار آلياتٍ في النظام العالمي، بقدر ما يتعلق بزوالٍ متزايدٍ لبنى وثقافة حضارات يشبه ما يتحدث عنه الجيولوجيون وعلماء البحار عن غرق القارّات في عصور ما قبل التاريخ. والواقع أنّ اهتمام معلوف بالحضارة ومقوماتها وعلائقها الداخلية وطموحها العالمي والإنساني هو موضوعٌ قديمٌ لديه. وهو في كلّ أعماله – وإنْ لم يصرّح غالباً بذلك – ضدّ أُطروحة هنتنغتون في «صراع الحضارات»: وفي كتابه الأخير لا يزال على رأيه الأول. فالذي يحدث خلال عقودٍ وعقود يتصل بأمرٍ آخر تماماً: انهيار نظام العالم الذي صنعته الحضارة الغربية، ثم انفلاقٌ هائلٌ يشبه أن يكونَ جيولوجياً إنما في ثقافات العالم ومواضعاته وعلاقاته التبادلية وإنسانياته، يوشك وخلال عقودٍ قليلة أن يؤدي إلى غرق أو زوال كل ما اعتادت عليه أجيال القرن العشرين. هو استطلاعٌ أو استنتاجٌ يفوق بكثير ما تحدث عنه مفكرو وفلاسفة ما بعد الحداثة. العالم عند أمين معلوف موحَّدٌ أكثر مما يعتقد الكثيرون ومفكرو الهويات بالذات. وهذا التوحُّد لا يعود إلى بنى وآليات «نظام العالم»، بقدر ما يعود إلى اتجاه البشرية للتماهي مع الغرب بأكثر ما يحسب أي من المراقبين وفلاسفة التاريخ: فهل أثقلت أعباء العالم كاهل الغرب فبدأت «تايتانيك» تغرق بكل حمولتها؟ ابن خلدون عدّ الأمر ظاهرة تاريخية بمعنى أنّ «المغلوب مولَعٌ دائماً بتقليد الغالب». لكنّ معلوف الذي ما اعترض على هذه المقولة، وربما لم يَرَ فيها في الأساس ظاهرة سلبية، لاحظ من قبل ثوران الهويات في الثقافات الغاربة والتي تحاول التجدد أو التمرد على الحضارة الغالبة، وهو يلاحظ في السنوات الأخيرة أنّ الحضارات في المديات التاريخية الشاسعة هي مزائج أو أمشاج وشبكات ضخمة تسودها في حقبة أو حِقب روحٌ معينة تبدو أوحد في أوهام المشاركين في صناعتها أو المستفيدين الأكبر منها، لكنها ليست كذلك في الحقيقة، وهي تبقى متعددة. إنّ الاتجاهات المتشددة في الغرب اليوم هي اتجاهاتٌ شعبوية تتقصد الانتفاع من جهة، وتتوهم التفوق والتفرد من جهة أخرى. أما الحقيقة فهي أنّ الحضارة كلّها (وهي مجمع حضارات) في خَطَر الغرق بسبب المشكلات التي راكمتها الحداثة وراكمها نظام العالم وخرجت عن السيطرة.
أمين معلوف المفكر والروائي والمثقف وفيلسوف الحضارة، عربي ولبناني وعالمي. وقد عالج الجانب اللبناني من شخصيته في «صخرة طانيوس». وانشغلت رواياته بالحضارة الإسلامية. أما كتبه الفكرية فهي عربية. وقد استخدم تجربته الصحافية في «اختلال العالم»، وأكثر في غرق الحضارة. وظلت مشكلته باعتباره عربياً في شخصية جمال عبد الناصر، وهزيمة عام 1967 بحيث يُخيَّل للقارئ المتمعن أنّ الانتكاسة العربية المستمرة هي سبب مهمٌّ لديه في «اختلال العالم»، وربما في «غرق الحضارات»!
وأمين معلوف مُحبٌّ عاقل، لا يكره أبداً، لكنه عندما يحب لا يعشق أو أنّ ذلك هو ما يبدو في كتاباته. وهو دائماً جديدٌ ومبدع. حاولْتُ قديماً أن أفهم الرواية التاريخية في أعماله استناداً إلى كتاب لوكاش عنها لكنني لم أستطع. ثم إنّ رواياته (التاريخية) لا تشبه في الحقيقة أعمال أندريه مورا وإميل لودفيغ وشتيفان تسفايغ. ولولا الثقافة الشاسعة، والشخصية السمحة، لما صار كاتباً عالمياً وليس روائياً عالمياً فقط، أو أنّ قضايا نظام العالم وسلامه وأمنه وحضارته ما كانت لتقع جميعاً في بؤرة اهتماماته.
عندما شاهدْتُ صورته على التلفزيون في الأسبوع الماضي ورئيس الجمهورية الفرنسي يعلّق على صدره وساماً رفيعاً خالجني إحساسٌ مزدوجٌ بالاعتزاز والوحشة: كم نحن محتاجون وكم نحن في شوقٍ لمشاركة العالم في ثقافته وحضارته وجديده وإنسانيته: وتلك الأيام نداولها بين الناس.
جريدة الشرق الأوسط