في تعبير آخر، مهم ودالّ، عن العلاقة بين الفن والحياة، نقول لا يمكن أن يجري الحديث عن واحد من أهم المنعطفات في تاريخ مصر الحديث، ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، دون الوقوف أمام دور وتجربة الموسيقار العبقري سيد درويش، الذي ولد في الإسكندرية في 17 مارس/ آذار عام 1892، وارتبط اسمه بهذه الثورة الشعبية.
وكسواه ممن أصبحوا عمالقة الفن والغناء في تلك المرحلة، التحق سيد درويش، في صباه ومطالع شبابه، بمعهد ديني لتحفيظ القرآن، كما درس لمدة عامين في الجامع الأزهر.
سيكون تعسّفاً، حصر الأهمية الفنية لسيد درويش بارتباطه بتلك الثورة، فتجربته أوسع وأثرى كثيراً، بل يمكن القول إنه إذا كانت ثورة سعد زغلول من أجل حرية مصر وتقدمها، فإن سيد درويش أحدث ثورة لا تقل أهمية في مجال الموسيقى، إضافة، بالطبع، إلى انتصاره لقضية شعبه، حيث ألهبت أغانيه روح المقاومة لدى المصريين.
ومن تلك الأغاني «بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي»، وأغنية «قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك» وغيرهما، والأغنية الأولى بالذات مستوحاة من أقوال للزعيم مصطفى كامل، واعتمدت لفترة طويلة لتكون النشيد الوطني المصري.
أحد أسباب اقتران اسم درويش بتلك الثورة، خاصة في هذه السنة حيث تمر مئويتها في الشهر الجاري، هو أنه نفس الشهر الذي تحل فيه ذكرى ميلاد سيد درويش، الذي عرف ب «فنان الشعب»، وما له دلالة أن عام 1919 بالذات كان أخصب الأعوام إنتاجاً في تاريخه حيث قدّم خلاله، على ما يذهب النقاد وكتّاب سيرته، 75 لحناً.
لم تقتصر آثار سيد درويش الغنائية والموسيقية على الأغاني المفردة وحدها، فقد قدّم أكثر من أوبريت غنائي، مثل «الباروكة» و«العشرة الطيبة» و«شهرزاد»، كما تعاون مع أشهر مغنيات عصره، منيرة المهدية، وقدّم أوبرا بعنوان «مارك أنطوان وكليوباترا» على خشبة المسرح المصري، كتبها سليم نخلة والشيخ يونس القاضي، ولحّن درويش الفصل الأول وتوفي قبل أن يتمّها، فأكملها الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي مثّل بنفسه دور«مارك أنطوان» أمام منيرة المهدية التي لعبت دور «كليوباترا».
وينقل تقرير على موقع «بي. بي. سي»، معلومةً وردت في دراسة «تاريخ المسرح العربي» للكاتب فؤاد رشيد فحواها أن تلك كانت المرة الأولى والأخيرة التي مثّل فيها محمد عبد الوهاب على خشبة المسرح.
لكي نتخيّل حقيقة أن سيد درويش لم يكن مجرد فنان متميز، إنما كان عبقرية موسيقية بالفعل، علينا تذكّر أنه تُوفي عن عمر ناهز 31 عاماً فقط.
جريدة الخليج