ينقّب الروائي اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار في أدراج التاريخ بحثاً عن أشخاص شبه مجهولين غالباً أو شبه منسيين، فيحييهم روائياً جاعلاً منهم شخصيات من لحم ودم، مضفياً عليهم طبائع وملامح ترسّخ حضورهم داخل العمل الروائي. ويحيط هذه الشخصيات بوقائعها والمرويات التي دارت حولها ليجعل منها أحداثاً تتراوح بين طابعها التاريخي وفضائها السردي والتخييلي المفتوح. هذا ما فعله مثلاً في رواياته «منفيّو الكوكاز» و «أثينا» و «رواية بيروت» و «فينيقيا» وسواها. لكنّ نجار لا يكتب رواية تاريخية في المفهوم التقليدي لهذه الرواية، ولا يسعى فقط إلى إسقاط أمثولة التاريخ على الواقع الراهن من أجل الإمعان في قراءته أو تفكيكه، بل هو يصطحب قارئه في رحلة إلى التاريخ، تحف بها متعة الاكتشاف والتخيل، متعة القراءة التي تتيحها لغته السيّالة والمتهادية. في روايته الجديدة «هاري وفرانز» (دار بلون، باريس) يكشف نجار النقاب عن شخصيتين تاريخيتين تكاد تجهلهما فرنسا الحديثة وأجيالها على رغم الأثر الذي تركاه سواء في السينما الفرنسية أو في ذاكرة الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب الثانية. ومع أن كلاً منهما ينتمي إلى عالمين مختلفين تماماً، فهما جسّدا حالاً من اللقاء الإنسانوي (أومانيست) والصداقة داخل السجن وفي ظل الاحتلال النازي الرهيب: إنهما الممثل الفرنسي هاري بوير الشهير في حقبة الثلاثينات والأربعينات والأب الألماني فرانز ستوك. كان الأول (الممثل) أسيراً في سجن شيرش ميدي النازي، أما الثاني، الأب ستوك، فلم يكن سجاناً بل كان مرشد السجن أو السجون من قبل البعثة الكاثوليكية الألمانية.
ولعل ما يميز الفن الروائي لدى نجار هو اعتماده التوثيق الذي يكون دوماً إحدى ركائز الرواية، وهدفه إرساء الحقيقة التاريخية التي لا يمكن تخطيها أو تجاهلها، مهما مضى في لعبة التخييل. لكنه لا يتيح للبعد التوثيقي أن يطغى على السرد أو يثقل حركته المتنامية فيوظفه روائياً ويضعه في خدمة السرد. هكذا مثلاً تحضر بعض معالم باريس الثقافية والأدبية والفنية تحت الاحتلال من خلال بعض الأسماء والظواهر اللافتة، وهذا ما شكل الإطار أو «الكادر» الحقيقي الذي جمع الشخصيتين الرئيستين.
في روايته الجديدة «هاري وفرانز» يلقي نجار مهمة السرد على عاتق راو هو فرانز نفسه، أحد بطلي الرواية، متيحاً له المجال ليسرد الأحداث من وجهة نظره، مؤدياً دور الراوي «الشخصي» الذي يصفه الناقد الفرنسي جيرار جنيت بـ «الراوي المشارك في الحكاية». هذا الراوي- فرانز- نعلم لاحقاً أنه دأب على كتابة يوميات أو مذكرات دوّن فيها مشاهداته في باريس المحتلة وانطباعاته. هو ليس بغريب إذاً عن سرد ما أولجه إليه المؤلف، حتى لتبدو الرواية هي روايته بقلم ألكسندر نجار.
تبدأ الرواية عبر مشهد الجيش النازي يواجه طلاباً فرنسيين متظاهرين في ساحة «ليتوال» (النجمة) يحتجون على الاحتلال فينهال عليهم بأعقاب البنادق والهراوات ثم يضطر إلى إطلاق النار موقعاً قتلى وجرحى ويأسر كثيرين منهم. هذه الحادثة ستكون المناسبة التي يتعرف فيها الأب فرانز إلى الطالبة المناضلة في صفوف جبهة تحرير فرنسا وتدعى إميلي أوبري، فهي تطلب منه دراجته لتهرب من العسكريين، ثم تعيدها إليه في مقر البعثة الكاثوليكية الألمانية. هذه الطالبة الجامعية تدخل حياته ودائرة الأحداث وتصبح واحدة من شخصيات الرواية. تصبح مساعدته في تدوين المعلومات المتعلقة بالسجناء وسجونهم، وتحرضه دوماً على مساعدة السجناء ولا سيما الممثل هاري. لكن النازيين يكتشفون أنها عميلة سرية لجبهة التحرير فيلقون القبض عليها ويسوقونها إلى السجن ويكشفون للكاهن كيف كانت تسرق المعلومات عن السجناء والزنازين من مفكرته وتسربها إلى المقاومين. يصدم الكاهن ولكن سرعان ما يغفر لها، لا سيما بعد أن يصبح مرشدها في السجن.
كان هذا المرشد الألماني الذي يكره النازية ويحب فرنسا التي علمته الكثير وثقّفته، يسعى إلى تبرئة ما أمكنه من الموقوفين وإلى إطلاق سراحهم. فهو على علاقة طيبة مع السفير الألماني في باريس وبعض الجنرالات الذين أثرت فيهم النازية سلباً وغيرت طبائعهم. فالسفير الذي كان ينتمي قبل النازية إلى إحدى حركات السلام صار رقيباً يمنع الكتب ويحرقها ومنها كتب لأدباء ألمان وفرنسيين: هينريش هاينه، ستيفان سفايغ، لوي أراغون، توماس مان، كارل ماركس…
لكن المنعطف الثاني في الرواية سيحدده لقاء الأب بالممثل الفرنسي الشهير حينذاك هاري بوير في سجن شيرش ميدي الذي كان مرشده الكاثوليكي المعين رسمياً. ومع أن التهم التي كانت تطلق جزافاً على الموقوفين هي اليهودية أو التجسس والعمالة أو الماسونية والشيوعية، كان على الكاهن أن يسأل الممثل في لقائه الأول به: هل أنت مسيحي؟ هذا الممثل الشهير مسيحي لكن النازيين اتهموه بكونه يهودياً وعميلاً مزدوجاً ورموه في الزنزانة من دون أن يحترموا اسمه وتجربته المسرحية والسينمائية المهمة. هنا تبدأ العلاقة بين هاتين الشخصيتين النموذجيتين اللتين تشكلان محور الرواية.
بدا الكاهن شخصية فريدة: كاثوليكي متمرد على النازية علناً وسراً. رفض ارتداء اللباس النازي المشترك الذي فرضته الدولة على الجميع من دون تمييز، كرهاً منه للنازية التي وجد شبهاً كبيراً بينها وبين «محاكم التفتيش». يمقت أيضاً شعار الصليب المعقوف الذي جعله النازيون شعاراً لهم، يشجب فكرة التفوق الآري والعرقية. كان يجيد الفرنسية إجادة تامة وقرأ تيوفييل غوتييه وهيغو وجورج برنانوس وبول كلوديل وشارل بيغي وفرانسي جام… كان الكاهن يهوى الرسم وأنجز لوحة لمريم العذراء تحتضن المسيح بعد الصلب وكان يردد: «الرسم يعيد إلي التوازن الذي أفقده لدى احتكاكي بالبشر». وكان عطفه على السجناء المسيحيين يجعل النازيين على حذر منه وكان هو يخشى دوماً أن يرموه ذات يوم على الجبهة الروسية كما فعلوا سابقاً بكاهن ألماني. كان الأب فرانز يحمل في جيوبه قطع الشوكولا والمسابح وكتب الصلاة الممنوعة أصلاً، ينتقل من سجن إلى آخر، يناقش السجناء في قضايا الإيمان بهدوء ويغفر لبعضهم هجاءهم إياه أو سخريتهم منه ولا سيما الشيوعيين. وكان أشبه بصلة وصل بين هؤلاء القابعين في السجون وأهاليهم. يهرب الرسائل سراً ويمررها أحياناً عبر تلاوة الصلاة بالفرنسية. وكم كان يؤلمه أن يكون شاهداً على الإعدامات بصفته كاهناً ومعرّفاً ومصلياً. ويصف بألم ما كان يسميه النازيون «العيد الرياضي» وهو الإعدام الجماعي بالرصاص: «بعد كل مرحلة من هذا «العيد الرياضي» اللامحتمل كان الضابط يتحقق من كون كل الجنود أطلقوا النار حقاً، فاحصاً أساطين بنادقهم، بينما كان طبيب يتولى التدقيق في موت الضحايا. وما أن ينتهي «العيد» كانت الجثث توضع في توابيت لتنقلها شاحنة إلى المقابر التي خصصت لأسرى الحرب… كنت أرافق الجثث لأصلي عليها وأسجل مواقع القبور. كانت تلك لحظات سكون بعد شدة توحش». لكنّ قدر هذا الأب سيكون شبه مأسوي عندما ينهزم النازيون ويدخل الحلفاء باريس، فيقع بين أيدي جنود المارينز، ليستحيل هو، مرشد السجون، سجيناً أو أسير حرب في أحد المخيمات.
وكما نجح نجار في استعادة شخصية الأب فرانز ستوك من ذاكرة الحقبة تلك، نجح أيضاً في الكشف عن الممثل هاري بوير وإحياء شخصيته. هذا الممثل المعروف في زمنه رافق السينما الصامتة ثم شارك في أبرز الأفلام التي صنعت بدايات السينما الفرنسية، وأدواره كانت مهمة في أفلام مثل «الجلجلة» و «تاراس بولبا» و «جريمة وعقاب» و «البؤساء» وسواها. علاوة على أدوار مهمة أداها في بعض الأفلام الألمانية، فهو كان يجيد الألمانية تبعاً لتحدره من منطقة الألزاس، وقد اضطر تحت الضغط أن يشارك في أفلام من إنتاج شركة كونتيننتال النازية في برلين. ولعل مشاركته هذه فتحت الأعين عليه وعدّه النازيون عميلاً مزدوجاً لا سيما بعدما أصروا على أنه يهودي، والحجة أنه كان لديه أصدقاء يهود في الوسط الفني. ممثل مسيحي إذاً يساق إلى السجن الألماني بتهمة اليهودية والعمالة وهو منهما براء، فيعذب ويعاني وتسجن أيضاً زوجته التي تتهم بكونها يهودية بينما هي تركية مسلمة من مواليد إسطنبول. تتضمن سيرة هاري التي يرسمها نجار أسماء أدبية مهمة وأعمالاً مسرحية وسينمائية وكأنها -كما تمت الإشارة- جزء من سيرة باريس. ويورد ما كتبت عن هاري الكاتبة الفرنسية كوليت والشاعر جول سوبرفيال ولا يتجاهل موقف الروائي الشهير سيلين منه فهو انتقده واتهمه باليهودية وذمّه.
عندما يتعرف الأب فرانز إلى هاري في السجن يقرر العمل على إخراجه منه، فيبحث عن أوراق عماده الكاثوليكي وشهادة المناولة الأولى ويجول على أصدقائه القدامى الذين أصبحوا نازيين. ويسعى أيضاً إلى إخراج زوجته مثبتاً أنها مسلمة لا يهودية. وينجح في الختام في تحريرهما من السجن. لكنّ هاري الذي يخرج من السجن في 19 أيلول (سبتمبر) 1942 يتوفى بعد أشهر جراء هزاله والأمراض التي سببها له التعذيب. ولا يهمل نجار عالم التعذيب وأدواته فيصفها في تفاصيلها فيكتشف القارئ أنها هي نفسها أدوات التعذيب التي ما برحت تُستخدم اليوم في سائر السجون الدكتاتورية خصوصاً في العالم العربي. ونجح نجار أيضاً في إبراز شخصية الممثل هاري ولو تخييلاً فجعله يعيش تجربة السجن بصفته ممثلاً يعيش الكوابيس وكأنه يؤدي أدواراً جهنمية: «لا أدري إن كنت أحيى كابوساً أو إن كنت أؤدي دوراً في مأساة سيئة. وسواء كابوساً كان أم مسرحاً، ففي الحالين يخطو السرد فوق الواقع ثم يتبدد، إما عند اليقظة وإما عند إسدال الستارة».
قبل بضعة أشهر احتفل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالذكرى السبعين لرحيل الأب فرانز ستوك الذي كان رحل عام 1948 بعدما أمضى سنواته الأخيرة في المخيم الأميركي بصفته مرشداً للسجناء، لكن نجار على ما يبدو استبق ماكرون إلى تكريم هذا الأب الذي سمي «الملاك الحارس للسجون» فانطلق في استعادة شخصيته وسيرته والى جانبه شخصية الممثل هاري بوير ليكتب هذه الرواية المؤثرة جداً والفريدة في جوها الواقعي والتخييلي الجميل.
جريدة الحياة