ذكرتُ أمس – خطأً – أن البيوت التابعة لـ«مركز الشيخ إبراهيم الخليفة للثقافة والبحوث» أصبح عددها 35 منزلاً. الرقم الصحيح هو 29. وهي متلاصقة تقريباً، تشكل في مجموعها لوحة للبحرين القديمة، ذات السقوف المخفوضة، والنوافذ المفتوحة من فوق، بحيث يدخل الهواء دون الحر، والنور دون الشمس.
هكذا كانت الحياة هنا في زمن الأهل، تطاردهم الشمس إلى الداخل، فحاربوها بالنوافذ الضيقة والأبواب الخشبية الضيقة، ورصفوا سقول البيوت بأعمدة متلاصقة من شجر «البامبو»، ترد الحر النازل وتخفف شيئاً من غلواء الرطوبة وعشوائيتها.
اختلط الحديث بالقديم في هذه المساحة القديمة من المحرّق اختلاطاً مدهشاً حقاً. فما إن تدخل هذه البيوت حتى ترى أنها تحوّلت إلى مكتبات رائعة، وإلى خزائن زجاجية تحفظ فيها المخطوطات، وجلّها رسائل من الشيخ إبراهيم أو إليه. وإحداها إلى صديقه أمين الريحاني، الذي كان يأتي لزيارة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، دائماً عن طريق البحرين.
ومن ثم يطالعك مدرّج (قاعة محاضرات) ضخم يتسع للمئات من الضيوف والمقدمين. وبين هؤلاء حتى الآن نجوم الغناء والأداء من الغرب والشرق ومن روسيا. وتقيم الشيخة مي آل خليفة عقوداً وعهوداً مع وزارات ودوائر الثقافة في كبرى الدول، فيتعرف القادمون إلى العراقة الثقافية في هذا البلد الصغير، ويتعرف الجمهور البحريني إلى معالم وعناوين الحضارات الأخرى.
عندما يقال «مركز الشيخ إبراهيم» يُخيل إليك أنه مبنى واحد. لكنه حارة من حارات الثقافة النادرة في العالم، لا يقابله في مدة دورته السنوية أي نشاط مشابه في العالم العربي، وإن كان الشبه المعماري واللوحات الفنية الخارجية والجداريات، يذكر بمهرجان أصيلة.
والتشابه المهم الآخر هو أن هذا العمل، تكراراً، والمدهش هو مبادرة فردية تتلقى أحياناً الدعم الملكي، في أصيلة أو في البحرين. وثمة مشروع في «مركز الشيخ إبراهيم» رعاه أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد. وتأتي المساهمات الأخرى من البنوك والشركات الوطنية الأخرى. ويشكل كل ذلك في النهاية، حالة ثقافية نادرة الجوهر. ولبنان الذي كان متقدماً ذات زمن في المد الثقافي لا يملك شيئاً من هذا على الإطلاق. وتبدو معارضنا السنوية عملاً بدائياً جداً أمام هذه الصناعة الثقافية بالغة الرقي.
تحمل البحرين طيبها وتواضعها إلى كل مكان. وهذا العام، حملت إلى دورة الجمعية العامة في نيويورك رسالتين؛ الأولى ألقاها رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان، والثانية وزير الخارجية الشيخ خالد الخليفة. والكلمتان رسالة واحدة: سلام المنطقة وسلام العالم. سكينة المنطقة وهناء شعوب العالم. ولا يصدق المرء أنه يمكن أن يكون لهذا البلد أعداء ومعتدون؛ كباراً كانوا أم صغاراً. ولا يصدق خصوصاً، أنهم من أهل الجوار أو صلات الأرحام. لكن كما أن الأخوة والتواضع واللياقة والسماحة طبيعة، فالعكس قد يكون كذلك أيضاً.
إلى اللقاء…
جريدة الشرق الاوسط