لعل الأمة العربية، من الأمم القليلة التي عانت، ولا تزال تعاني ثقل الجغرافيا والتاريخ، بما جعلها في الماضي والحاضر، محط أنظار الغرباء الطامعين، في خيراتها وثرواتها، ومعابرها الاستراتيجية. إن كون الوطن العربي، نقطة وصل بين القارات القديمة، ووجود أهم الممرات والمعابر البحرية والاستراتيجية به، جعلته مركز تنافس وصراع دولي، لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا، ولن نبعد كثيراً عن الحقيقة إذا أشرنا، إلى أن ما يجري هذه الأيام من تنافس وتدافع فوق مياه الخليج العربي الدافئة؛ هو استمرار لذلك الصراع والتدافع، الإقليمي والدولي، الذي بات جزءاً من تاريخ هذه المنطقة.
من جهة أخرى، كان للبيئة الطبيعية دورها الكبير، في إبداع وصلابة الإنسان العربي، وفي هذا السياق، يتعرض المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى دور الإنسان العراقي في منع الفيضانات في وادي الرافدين، فيذكر أنه لم يكن بوسع الإنسان في العراق تطبيق ذلك المستوى العالي من التقنية، في ظل البيئة القاسية، لو لم يتعاون عدد كبير من الناس، أكبر بكثير من أولئك الذين تعاونوا في السابق في مشاريع إنسانية بدائية، وأن الفرق في مقياس التعاون لم يكن فقط في الدرجة؛ بل كان في النوع أيضاً، وقد شكل هذا التطور ثورة اجتماعية.
فالتغلب على المصاعب التي تعترض طريق هذا التطور، اقتضى وجود بشر من نوع خاص، يملكون مخيلة وبعد نظر وضبطاً للنفس، وقدرة على التخطيط؛ بحيث يكون المردود كبيراً في نهاية المطاف، ليس هذا فحسب؛ بل إن ذلك تطلب أن يملك هؤلاء الأشخاص القدرة على إقناع جماعتهم في مشاركتهم برنامج عملهم، وتعلل هذه التطورات؛ بروز مفهوم النخبة، ومن ثم الزعامة أو القيادة في تلك المجتمعات.
وهكذا كانت الحضارة في وادي الرافدين منذ بداياتها إنسانية بالدرجة الأولى، تحدت الطبيعة، وتغلبت على البيئة وأخضعتها، وكان للإنسان منذ البداية الفضل الأول في تحول هذا الجزء من العالم إلى بيئة غنية وخصبة، أثرت في مسيرة التطور، وأضافت إلى إبداعاتها وإنجازاتها.
فعلى هذه الأرض، وابتداء بالحضارة السومرية، تطورت الزراعة وأصبحت حرفة، وتم تبادل التجارة، وروضت الخيل، وصنعت المركبات، وسكت النقود، وكتبت خطابات الاعتماد، ودشنت كثيراً من الحرف والصناعات، وسنت الشرائع وأُقيمت الحكومات، وأُنشئت علوم الرياضة والطب، واكتشفت طرق تحويل المياه، وقد برع السومريون في استخدام الهندسة والفلك، والتقويم والساعات، وصوروا دائرة البروج. وفي هذه البلاد عرفت الحروف الهجائية والكتابة لأول مرة، واخترع الورق والحبر، وألفت الكتب، وشيّدت المكتبات والمدارس، ونشأت الآداب وفنون الموسيقى والنحت وهندسة البناء، وصنع الخزف المطلي المصقول والأثاث الدقيق الجميل.
وعلى هذه الأرض أيضاً، تطورت الثقافات الإنسانية فنشأت عقيدة التوحيد وتحققت وحدة الزواج، واستخدمت النسوة أدوات التجميل والحلي، وفرضت ضرائب الدخل، وكان أثر العوامل الجغرافية حاضراً بقوة في صياغة تاريخ وادي الرافدين.
وقد عكس ذلك الوضع ذاته على الطريقة التي نشأت وتطورت فيها الحضارة والثقافة المحلية؛ فعدم صلاحية الكثير من المناطق النهرية للملاحة أدى إلى تطور النقل البري وانتشاره؛ حيث وجد علماء الآثار في مدينة كش مركبات تعد أقدم ما عرف من المركبات ذات العجلات في التاريخ.
ونظراً لوفرة المياه في البلاد؛ إذ يشقها من الشمال إلى الجنوب نهران عظيمان؛ وحيث تنزل الأمطار بنسب مقبولة بالمناطق الشمالية في فصل الشتاء، لم تكن هناك حاجة إلى هيئة تنظم عملية توزيع المياه. إن ذلك يفسر أسباب تأخر تحقق الوحدة السياسية والتجارية للبلاد إلا بعد عام 1800 ق.م، حين نمت التجارة في البلاد إلى حد جعل من بقاء المدن منفصلة عن بعضها أمراً مستحيلاً.
وبسبب من التطورات المهمة التي حدثت في مجال الزراعة، نشطت حركة التجارة، وشيدت المدن الكبرى، وقامت الإمبراطوريات والحضارات، وقد بقيت معالم تلك الحضارة مجهولة لنا حتى عام 1850م حين تم اكتشاف الكتابة المسمارية، ووجدت بين الخرائب البابلية وبين الأنقاض في منطقة أور ألواح نقش عليها تاريخ الملوك السومريين، وتبين من تلك الاكتشافات أن النظام الإقطاعي كان وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في تلك الإمبراطوريات.
وكان للموقع أثرها الكبير في جعل أرض العراق مسرحاً لمعارك دموية طاحنة وطويلة بين القوى العظمى السائدة في ذلك العصر؛ وذلك بسبب موقعها بين الحضارات التي قامت في بلاد فارس ومصر وبلاد الإغريق، فعلى هذه الأرض حارب البابليون الفرس، وتبادلوا الانتصارات والهزائم، ومنها انطلق نبوخذ نصر إلى أرض فلسطين، وجرى سبي اليهود، وسجنهم في أبراج بابل، وعلى أرضها وطأت جيوش الإسكندر المقدوني الإغريقية في اتجاهها لاحتلال فارس.
وفي هذه البلاد نشأت مجموعة من الحضارات العريقة من بابلية وآشورية وكلدانية
لا تزال آثارها تعد معلماً على ما وصلت إليه هذه البلاد من رقي وتقدم، قياساً إلى ما بلغته الإنسانية في تلك العصور.
جريدة الخليج