بخلاف الحديث الرائج عن موت القصيدة مقابل المكانة التي صارت تحتلها الرواية، يبدو أن القصيدة تمتلك قدرة مذهلة على تجديد حياتها، خلال كل لحظة عصيبة، وإن كان ذلك يضطرها أحيانا، إلى النط من صفحات الدواوين الشعرية، التي قد لا يقرأها أحد، إلى فضاءات أخرى، بحثا عن قراء آخرين، وعن وسائط مغايرة، وعن تمثل آخر للكتابة الشعرية نفسها. ولعله نفس الأمر الذي كان وراء قصة المعلقات وخلودها، بفضل طريقة تداولها المغايرة.
ولأن هشاشة القصيدة تشكل مشتركا إنسانيا، سيكون عليها أن تبحث دائما عن طوق النجاة، خلال كل اللحظات التي يخبو فيها صوت الشعر أو الشعراء، أو هما معا. وانسجاما مع ذلك، ستكون القصيدة على موعد، في نهاية الخمسينات من القرن، مع عودتها إلى طبيعتها الأولى، كنص شفهي، مع لبوس مختلف هذه المرة، وذلك مع ظهور القصيدة الصوتية. وامتدادا لذلك، سيتم توظيف كل الطرق والإمكانيات التي يمكن أن تجعل من النص الشعري مثيرا، ابتداء من صوت الشاعر واللعب على أنفاسه، والضحك العالي، واختلاق حروف جديدة، والتركيز على تقنيات الجناس والسجع، إلى استعمال التكنولوجية الصوتية.
إنها التجربة التي أثثها فرانسواز دوفرين وهنري شوبان وبرنار هايدسيك وآخرون، كل بطريقته وتمثله للحدود التي يمكن أن تصل إليها القصيدة الصوتية. أما الشاعر الفرنسي جوليان بلان، أحد مهندسي التجربة، فقد اختار، قبل سنوات، الإعلان عن اعتزاله، مكرسا سنة كاملة للاحتفاء بقراره، عبر جولة شعرية، سماها “وداعا البيرفورمونس”، وتاركا المجال لشعراء آخرين، اختاروا كتابة القصائد بأصواتهم.
وبشكل مختلف عن التجربة السابقة، لم تسلم القصيدة من اجتياح سلطة وسائل تكنولوجيا المعلومات الجديدة، التي فتحت الباب أمام تجاوز الحدود التقليدية للكتابة الشعرية، حيث صار الحاسوب “كاتبا”، يتدخل في كتابة النص، عبر محدداته على مستوى الألوان وأنظمة العلامات. وهو وضع قد يفقد معه الكاتب الحقيقي القدرة على التحكم في مآل نصه. ويصل الأمر في حالات أخرى، إلى حد كتابة وتوليد القصائد عن طريق البرمجة المعلوماتية. كما هو حال تجربة الشاعر الفرنسي ريموند كينيو.
لا يتوقف البحث عن تحقيق الاختلاف عند هذه الحدود. الشاعر شالر بينكوا كان يقرأ قصائده المترجلة، مستعملا مكبر صوت. سيرج باي كان يفضّل أن يكتب قصائده فوق ألواح ليقرأها على صوت الأجراس التي يضعها في رجليه، بطريقة تحفها طقوس الجذبة.
إنها تقاليد نفتقدها هنا. حيث يكتفي كثير من الشعراء بالمرور فوق المنصات، كما لو أنهم لم يمروا، بدون أثر. وذلك أحد توابل القصيدة التي لا تحيي والتي قد تميت.
صحيفة العرب