مؤنس طه حسين هو الابن الوحيد لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين المولود في الثامن من أيلول (سبتمبر) عام 1922 والمتوفى في السابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004 عن عمر يناهز الثانية والثمانين. وتفيد بعض المعلومات أن مؤنس طه حسين قد استقر في فرنسا بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الأدب من السوربون (Moӗnis Taha Hussein, Le Roman Tisme François et L’Islam) منذ عقد الستينات من القرن العشرين وأنه عمل بقسم الترجمة بمنظمة اليونسكو طيلة حياته المتبقية وينسب إليه كتاب ضخم يقع في حوالي 800 صفحة يضم مذكراته عن حياته وحياة والده، وتفيد معلومات أخرى أن محاولات الكاتب الأدبية في فرنسا ومنها مجموعته الشعرية الأولى «كان الفجر شاحباً» ومجموعته الثانية «الصباح الصافي» المكتوبتان باللغة الفرنسية لم يكتب لهما النجاح.
لقد صدر كتاب «ملامح رومانسية Silhouettes Romans iquel» لمؤنس عن دار المعارف المصرية بدون تاريخ محدد؛ إلا أنه في أغلب الظن قد نُشر بعد ظهور دراسته المطولة عن «الرومانسية الفرنسية والإسلام» الصادرة عن دار المعارف اللبنانية عام 1962.
وينص المؤلف صراحة في مقدمته «ملامح رومانسية»: بأنه لا يرمي بها إلى تقديم عمل أكاديمي صارم مثقل بالوثائق والمراجع. بل أرادها أشبه ما تكون بعرض محرر من القيود لأهم ما عنّ له من تصورات وتأملات حول رواد الحركة الرومانسية الفرنسية في إطار علاقتهم بالمؤثرات الإسلامية بالإضافة إلى ما تأتّى له من خطوات حول بعض الرموز الأخرى لهذه الحركة ولغيرها من التيارات الأدبية الموازية لها خلال القرن التاسع عشر.
وعلى هذا النحو تضم هذه الدراسة تسعة فصول يتناول فيها بالدرس والتحليل السمات الفارقة في الخطاب الرومانسي ويقدم مجموعة من «البورتريهات» لكل من فيكتور هيجو في ديوانه «الشرقيات» ولشاعر «الليالي» ألفريدي موسيه ولجورج صاند وتمردها على المجتمع التقليدي ولجرادي نوفال في ما يخص تصويره لليالي رمضان في القسطنطينية … الخ
أغلبية الناس لا تعرف مؤنس طه حسين إلا عن طريق أبيه فهو الذي أهدى إليه مؤلف «الأيام» الجزء الثاني من الكتاب، فقال: «وها أنت ذا يا أبني تهجر وطنك ومدينتك ودارك وتفارق أهلك وأصدقاءك وتعبر البحر في سنك الصغير هذا لتطلب العلم وحيداً في باريس»، ومع ذلك فإن مؤنس جدير بأن يُعرف في حد ذاته فقد كان كاتباً وشاعراً وإن كان يكتب بالفرنسية فضلاً عن أنه كان إنساناً ممتازاً.
توفي مؤنس في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 عن 82 عاماً فقد ولد في 1921 وكان في السنوات الأخيرة من حياته مريضاً؛ في فترة من حياته كان يحاضر في قسم اللغة الفرنسية بآداب القاهرة حوالي عام 1961، ثم انتقل للعمل في مقر اليونسكو بباريس، تزوج من السيدة ليلى العلايلي وكان كلاهما وسيماً أنيقاً مرهف الملامح وكانت ملامح مؤنس– وخاصة نحوله وجبهته العالية ووجهه المستطيل– تذكر على نحو واضح بأبيه، وقد ظل لسنوات طويلة يعمل مساعداً لأبيه، فقد ترجم إلى الفرنسية بالتعاون مع أخته أمينة «أُديب» و «شجرة البؤس» كما تعاون مع اندريه جيد على تفتح الترجمة الفرنسية لكتاب الأيام (طـو2 ) ، ولا شك أن مؤنس قد ازدهر طيلة الفترة التي عاش فيها مستظلاً بأبيه الذي وفّر له مناخاً ثقافياً لا نظير له في مصر ويبدو أن تلك البيئة الثقافية الحافلة ساعدت على تفتّح مواهبه في سن مبكرة. فقد نشر ديوان شعره الأول «شاحباً كان الظل» وهو في السادسة عشرة من عمره وعندما عمل بالتدريس في الجامعة برز تعدد مواهبه واهتماماته، وأخبرنا بعض طلابه في قسم اللغة الفرنسية بآداب القاهرة أمثال أمينة رشيد وأمال الروبي. كيف كان مؤنس يفتح لهم أبواب الثقافة الرفيعة ويعلمهم الاهتمام بالموسيقى وتاريخ الفن حتى أنه كان يخرج عروضاً مسرحية يمثل فيها طلابه وكان يحضر تلك العروض كبار المثقفين أمثال: طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل.
ويلاحظ أن غالبية المؤلفات المنشورة لمؤنس قد صدرت وهو مازال في كنف أبيه قبل أن يستقر في باريس بصفة نهائية. حيث صدر له في تلك المرحلة ثلاثة دواوين من الشعر ومسرحية كما صدر بالقاهرة كتابان مترجمان عن الفرنسية هما «الإسلام في الأدب الرومنطيقي في فرنسا» وهو في الأصل رسالة الدكتوراه، و «ملامح رومانسية».
ويبدو أن مؤنس لم يكن في نهاية المطاف على علم وثيق بأدب أبيه نظراً لأنه لم يكن يحسن العربية، وفي الحقيقة فقد كان على وعي بذلك القصور ويعترف به ويعتذر عنه.
ولقد كان رحيله عن الجامعة وعن مصر بصفة عامة في أوائل الستينات إحدى المحن الكثيرة التي تعرض لها (منها وفاة أخته أمينة عام 1988 وكذا زوجته ليلى) فقد خسرته الجامعة كما خسرها، ويقال أنه ترك العمل في قسم اللغة الفرنسية بسبب نزاع على الترقية أو رئاسة القسم ولكن يبدو أن رحيله عن مصر كان لأسباب أخرى تتعلق بتطورات ذات صيغة عامة فلعله رأى ولمس أن البيئة الثقافية الناطقة بالفرنسية التي نشأ فيها وازدهر قد أصابها التدهور فقد كانت مصر قبل رحيله عنها حافلة بالنشاط الأدبي الناطق بالفرنسية وكان من السهل عليه وعلى أمثاله من الكتّاب الناطقين بالفرنسية وغيرهم من الأجانب أن يؤلفوا وينشروا أعمالهم في ظل حياة كوزموبوليتانية تتسع للجميع وكانت هناك مجالات أدبية وصحف ناطقة بالفرنسية وغيرها من اللغات الأدبية وكان طه حسين على سبيل المثال ينشر مجلة «الكاتب المصري» وكان لها توأم يصدر بالفرنسية في الإسكندرية وهي مجلة «قيم» التي كان يرأس تحريرها «إيتامبل»، ولكن من المعروف أن الأوضاع في الجامعة وفي الحياة الثقافية المصرية بصفة عامة أخذت تتغير على نحو شامل منذ قيام الثورة ونزوح كثير من الأجانب وتضييق الخناق على الجامعة والجامعيين ولعل مؤنس طه حسين قد شعر أن الحياة في مصر لم تعد تلائمه ولم يكن في ذلك مختلفاً عن غيره من الكتّاب والفنانين الذين أخذوا يرحلون عن مصر أوائل الخمسينات. ولا بد أن فرنسا بدت وكأنها أنسب مكان له. وخاصة أن زوجته كانت بدورها فرنسية التعليم والثقافة ولكن مؤنس عندما انتقل لباريس كان غريباً فيها بمعنى من المعاني فهو لم يعمل في الوسط الأكاديمي الذي كان مؤهلاً له خير تأهيل بل أصبح موظفاً دولياً في منظمة اليونسكو ولا شك أنه أدى هنالك خدمات جليلة في مجال نشر الروائع العالمية ويبدو أن العمل الدرامي كان يستهلك جزءاً كبيراً من وقته وطاقته؛ وهو لم يزدهر كما ينبغي في وطنه الجديد لأنه أصبح شاعراً فرنسياً راسخ القدم قبل أن يهاجر إلى فرنسا، ولأنه حصل على تعليم فرنسي لا يحصل عليه إلا النخبة من الفرنسيين (فقد التحق بمدرسة المعلمين العليا التي تخرج منها عدد من إعلام الفكر الفرنسي مثل جان بول سارتر وريمون آرون.. وآخرون) كما حصل بعد التخرج من هذه المدرسة على درجة الأجرجاسيون وكان فيما يقال أول مصري يحصل عليها. ويضاف إلى ذلك أنه كان على معرفة وثيقة بعدد من أعلام الأدب الفرنسي من أصدقاء أبيه أمثال ماسينيون وأندريه جيد وإيتامبل وكانوا يسهلون له نشر أعماله وهو على عكس الموظفين الأدباء في اليونسكو الذين استغلوا مناصبهم لنشر أعمالهم. ولكن مؤنس لم يكن من بين هؤلاء فهو لم ينشر من إنتاجه شيئاً يذكر طيلة عمله في اليونسكو ولم ينشر له إلا بعد تقاعده ديوان رابع عنوانه «سوف ينحسر البحر» عام 1995 وكان مخصصاً لرثاء زوجته.
ولكن مؤنس كان يكتب دون أن ينشر. فقد قرأنا في الأهرام خبر عن المذكرات التي خلفها في نحو 800 صفحة لكن للآن لم تنشر. وبالعودة إلى المحن التي نزلت بمؤنس كان من بين هذه المحن غربته عن اللغة العربية وهي حالة لم تكن من صنعه، وذلك أن طه حسين لم يكن لديه متسع من الوقت لكي يفي بتعليم ولده العربية وترك الساحة مفتوحة لوالدته الفرنسية لكي تمارس تأثيرها دون منازع وحاول طه حسين أن يعالج هذا الأمر عن طريق استقدام معلم للغة العربية لمؤنس، ولكن الأوان قد فات وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى غربته عن المجتمع المصري ولقد توالت عليه المحن في فرنسا فقد توفيت رفيقة سفره وهجرته وحبه الأول والأخير، ثم كانت الطامة الكبرى عندما فُرضت العزلة على مؤنس بسبب مرضه الأخير، وكان أن عجز عن الكلام ولم يكن يؤنس وحدته في عزلته سوى رؤية ابنة أمينة وطفليها… رحم الله مؤنس طه حسين.
جريدة الحياة