يقلقني هذا الإعلان الذي وقع في بريدي. يزعجني ويغيظني رغم إدراكي أن المواهب عابرة للحدود وللأعراق وللمذاهب. ما المشكلة في أن يقدم ممثلون وممثلات يهود عرضاً مسرحياً عن أم كلثوم على أحد مسارح باريس؟ يقول الإعلان إنها قصة الحب اليائس بين الشاعر أحمد رامي وسيدة الغناء العربي. وأحاول أن أستعيد في رأسي أسماء الفنانين اليهود الذين أبدعوا موسيقى وأفلاماً أسعدتنا؛ كانوا ألماناً وبولونيين وأميركيين وفرنسيين. لكن هؤلاء الممثلين أصحاب الإعلان سيأتون من حيفا، وهم يحتلون أم كلثومنا هذه المرة. وهي ليست أي مطربة، بل إرث قومي.
شرح الناقد الفني الراحل كمال النجمي معجزة اتفاق العرب على الإعجاب بكوكب الشرق. كتب أنها طافت بالعراق والمغرب وتونس ولبنان والكويت والسودان، فكانت أغانيها تُقابل في كل مكان بتذوق وتفهم. وظلت الأغنية الكلثومية حاضرة في الوجدان العربي. ولهذا اتخذ الالتفاف حولها شكلاً قومياً، تتمثل فيه وحدة الذوق الغنائي لدى شعوب الأمة.
قبل سنوات، حاول مخرج فرنسي أن يقدم مسرحية تجمع بين أم كلثوم وعبد الناصر، وأطلق على العرض تسمية «الليلة الثانية بعد الألف». وكان من الجرأة بحيث جعل البطلين يعيشان غراماً حارقاً، وألبس المطربة ثياب شهرزاد، وتركها تسهر الليل لتغني للزعيم المحبوب شهريار حتى انبلاج الصباح، فلا يقطع عنقها. رأيناها بجواره رافضة أن تخلع نظارتها السوداء، تؤمل النفس بأن تسمع منه عبارات الهيام. أما هو فكان يغفو ويتكلم في نومه عن الجماهير ومعارك الأمة.
حسناً، تلك شطحة من مخرج ممسوس، لكن تطرّفه مضى به حدّ أن جاء بممثلة عجفاء مبحوحة الصوت لتقوم بدور «الست»، وبممثل قزم ليؤدي دور عبد الناصر. وكانت البطلة تضطر للركوع على ركبتيها لكي يكون رأسها في مستوى رأسه. أما الجمهور في القاعة فكان يتفرج ويقهقه ساخراً، أو يتفرج غاضباً ولسان حاله يقول: «ارفعوا أيديكم عن رموزنا».
لا يمكن لنا أن نطالب برفع اليد عن «ألف ليلتنا»؛ لقد ترجموا الكتاب إلى لغات كثيرة قبل كذا مائة سنة، وأصبح من تراث البشرية. لكن للعرب أم كلثوم واحدة لا غير، لا تُستعار ولا تتكرر. وقد حاولت مغنيات ظهرن معها أن يختطفن شيئاً من أنوارها وشهرتها. وتسمّت إحداهن باسم أم كلثوم، ونزلت إلى الميدان على أمل أن تخدع السميعة. وهنا، قامت أم كلثوم الحقيقية بتوزيع إعلانات باليد، نشرتها الصحف بعد ذلك، جاء فيها: «أنا وحدي الأصلية: أم كلثوم إبراهيم البلتاجي. أما الأخريات فإنهن أمهات كلثوم زائفات لا يعترف الغناء بأمومتهن».
هذه المرة ستؤدي الممثلة الإسرائيلية غاليت غيات دور «الست». ونعرف أن القسم العربي في إذاعة إسرائيل كان يبثّ أغنية لأم كلثوم في السادسة من كل مساء على مدى ثلاثة عقود. وقد تكون لديهم تسجيلات نادرة لا تتوفر في الإذاعات العربية. ويفتخر إسحق أفيعيزر، المدير السابق لقسم الموسيقى، بأنهم «رووا ظمأ الجمهور إلى أغانيها». وبحسب «غوغل»، فإن أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أعلن أن أم كلثوم أثرت كثيراً في الموسيقى الإسرائيلية. وأثار رأيه المنشور على صفحته في «فيسبوك» جدلاً بين متابعيه. وها هي وسائل إعلامهم تحتفل بذكرى رحيلها كل عام. وقد أطلقوا اسمها على شارع في القدس. وقدمت عنها المخرجة اليهودية سيمون بيتون فيلماً وثائقياً، ونظم الشاعر روني سوليك قصيدة فيها، وأعادت المغنية ميخال آدلر إداء أغنية «أنت عمري»، بينما غنت زميلتها زهافا بين «غنيلي شوي شوي».
لقد فات عبد الناصر أن يؤمم أم كلثوم.
جريدة الشرق الاوسط