بسبب حجم وطبيعة التحولات التي يشهدها العالم كله من حولنا، وكذلك ما يمور به عالمنا العربي من مخاضات عنيفة، ليس واضحاً حتى اللحظة. الأفق الذي سيقودنا إليه السؤال المهم عن مدى حاجتنا إلى نموذج ثقافي جديد من خلاله يمكن تشخيص وتحليل هذه التحولات، ورسم خريطة طريق، وربما خرائط طرق للمستقبل، إما بسبب شيخوخة الكثير من المفاهيم، وعجزها عن مواكبة الجديد، أو بسبب التطبيق الأعمى، غير الخلاق، للمناهج الحديثة على بيئة معقدة، شديدة التشابك في المهام كما هي حال بيئتنا العربية.
ولا يمكن، في مطلق الأحوال، الحديث عن نموذج ثقافي، جديداً كان أو غير جديد، دون الوقوف أمام المثقف نفسه، مفهوماً ودوراً، لأن المثقفين هم حملة النموذج الثقافي الذي يدور عنه الحديث، وحكماً من الرؤية التي يحملها المثقف، بوسعنا أن نحدد طبيعة النموذج الثقافي الذي يفترض فيه أن يكون أحد صنّاعه.
لا ينحصر دور المثقف، والحال كذلك، في تقديم المعرفة وتطويرها فقط، وإنما أن يكون قادراً بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه لبثّ قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل مبضع النقد فيما يعدّه معوقاً للمعرفة والنهضة.
برأي المفكر الفرنسي بورديو، فإن المثقفين ليسوا ملائكة، ليسوا كائنات فوق الجاذبية الاجتماعية، بل هم كائنات لها مصالح واستراتيجيات هيمنة وإرادات قوة كغيرهم من الفئات.
أما إدوارد سعيد فيرى أنه بالرغم من فيض الكتب والمقالات التي تقول بأن المثقفين لم يعد لهم وجود، وإن نهاية الحرب الباردة وولادة عصر التخصص وتسويق وتسليع كل شيء في الاقتصاد المتعولم حديثاً، قد أطاحت بتلك الفكرة القديمة والرومنطقية بعض الشيء عن الكاتب/ المثقف، فلا تزال أفكار وممارسات الكتاب والمثقفين المتعلقة بالخير العام تحمل الكثير من الحياة.
والمفارقة في عالمنا العربي، أننا في الوقت الذي نزداد فيه انخراطاً في عالم اليوم، من خلال شبكة العلاقات الاقتصادية مع العالم المتقدم، وتأثرنا الذي لا ريب فيه بمفاعيل التقنيات ووسائل الاتصال الحديثة، فإننا، على الصعيد الثقافي، نمعن في الانعزال عما يمكن وصفه بالشروط الثقافية لهذا الانخراط.
ومن علامات ذلك، ما نحن شهود عليه، من تنامٍ للأصوليات الدينية والمذهبية، ومن الانفجارات المريعة للهويات الفرعية التي نجمت عنها حروب أهلية مدمرة أتت على المنجز اليسير للحداثة العربية، مجتمعياً، والتي يصح وصفها اليوم بالمجهضة.
ظواهر مثل هذه يجب ألا تحمل المثقفين على الانطواء على ذواتهم والانسحاب من المهام التي كان أسلافهم من التنويرين الشجعان ينهضون بها، وفي ظروف كانت، بدورها، معقدة ومحبطة، بل إن المطلوب هو أن يستلهم مثقفو اليوم من أولئك الأسلاف شجاعة مقارعة الزيف والجهل والتخلف، حتى لو كان لذلك ضريبة يتعين دفعها، وتلك هي المهمة المعقودة عليهم.
جريدة الخليج