تعرفت إلى خيري منصور في بغداد، أوائل الثمانينات، عندما كان يعمل محررا في مجلة “الأقلام”، وأنا طالب في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية، وكان قد سبقه في الوظيفة ذاتها الشاعر محمد عفيفي مطر والروائي غالب هلسا، ونشأت بيننا علاقة صداقة تواصلت وتعمّقت في عمّان فيما بعد. وكنت ألتقيه بين حين وآخر في مقر المجلة ومقهى البرلمان الذي يرتاده عدد من الأدباء كل يوم جمعة، وأتذكّر أنه كتب قصيدة عن ذلك المقهى، نشرتها “الأقلام” يقول في بدايتها:
“تهيّج الظهيرة أقدامهم/ يسيلون…/ يسيلون…/ من شقوقهم متعرجين كثعابين طيّبة/ ويشتبكون على الحافة/ بكؤوس مهشّمة.
لم أنقطع عن قراءة ما ينشره من قصائد ومقالات نقدية حتى وأنا جندي في جبهة الحرب، ومن بين قصائده التي أُعجبت بها كثيرا قصيدته الطويلة “أنام ملْء غزالتي”، التي نشر مقاطع منها في “الأقلام” عام 1986، وخصص مقطعها الثاني لناجي العلي. وقد تحدثنا عنها، أنا وإياه، طويلا في إحدى إجازاتي الدورية، يقول فيها “ماذا تقول جرائد الأحد السميكة/ عن قتيل “بقية الأيام”/ – هل تخفيه؟/ – أخفته.. طوال حياته/ واليوم تخفي قاتله/ ناجي يفرّ إلى النجاة من الهزيمة/ يرسم التفاح “حنظلة”/ ويوغل في المرارة يهتدي للسرّ:/ يكتب حنظلة:/ “بيروت ثاكلة”/ “وصيدا أرملة”.
في منتصف تسعينات القرن الماضي كان الراحل أول من نشر لي في صحيفة الدستور الأردنية مقالا بعنوان “ليلة دفن الممثلة جيم: بوليفونية الصوت الواحد”، حين كان يعمل رئيسا للقسم الثقافي في الصحيفة، وكنت وقتها قد وصلت إلى عمّان، قبل شهر، للإقامة فيها. ولا أنسى دوره في تقديمي وتعريفي إلى الوسط المسرحي الأردني.
خيري منصور يرى الحداثة الشعرية العربية في نهاية الأربعينات من القرن الماضي تتطلب إعادة نظر، واستقراء نقديا من خلال رؤى مغايرة لتلك التي تزامنت معها
كان خيري منصور واحدا من الشعراء العرب القلائل المخلصين للشعر بالمعنى الذي يؤمن به، وهو أنه، كما يقول في شهادته المنشورة في أحد أعداد مجلة “الهلال” المصرية، محاولة للإمساك بما لا يمكن الإمساك به. وبالرغم من أنه، أي الشعر، تجربة حدسية وتأملية، فإنه، في رأيه، جسدي بامتيازات عديدة، في مقدمتها كونه الهواء المائل للصلابة، والماء الذي يثرثر بألسنة الغرقى ممن مكثوا فيه إلى الأبد، ويجنح دائما صوب البراري، وخارج الحدود الإقليمية للعقل، وقد فشلت محاولة اغتياله بعقلنته وتدجينه داخل إطار مدرسي، لأنها أشبه بمحاولة مَن يريد أن يصبّ ماء البحر في زجاجة. وما دام الشعر توأم البحر، فإن ما يسمى بالغموض هو هوية له وليس صفة.
وكانت لدى خيري منصور قناعة بالمعادلة، التي يعتبرها خالدة، قدر تعلقها بالإبداع، وهي أن الشاعر حاصل جمع نصوصه، لديها فائض يتعذر إحصاؤه، تماما كما هي الرائحة بالنسبة للشجرة. وهذه رؤية نقدية في جوهرها تدعو إلى دراسة أو قراءة النتاج الشعري الكامل لأي شاعر للوقوف على أسرار تجربته وتطور شعريته.
وفي هذا السياق، أيضاً، لا بد من الإشارة إلى موقف خيري منصور النقدي من بواكير الحداثة الشعرية العربية في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، فقد رأى أنها تتطلب إعادة نظر، واستقراء نقديا من خلال رؤى مغايرة لتلك التي تزامنت معها، فالحداثة لم تكن مجرد بعثرة للعمود وإعادة توزيع المفردات على الصفحات، لأن الكثير من قصائد نازك الملائكة، وهي التي تُنسب إليها ريادة الشعر الحديث، هو عمودي أعيد إنتاجه وتوزيع كلماته، وثمة قصائد للسياب أيضا بقيت، بالرغم من اجتراحاتها التصويرية وبنائها الجمالي الفذ، في هذا النطاق أيضا.
وبتأثير من إدوارد سعيد، انصب اهتمام خيري منصور على موضوعة الاستشراق، فكتب كتابا بعنوان “الاستشراق والوعي السالب”، صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2002، قارب فيه موضوعات ذات صلة عميقة بنظرة الغرب إلى الشرق، وبنظرة الشرق، ومنه نظرة العربي، إلى نفسه، واستعرض مجموعة من المقولات والمفاهيم المتعلقة بالاستشراق، وقدم قراءة في عدد كبير من كتب المذكرات والنصوص الأدبية والفكرية، وصولاً إلى الغاية المتمثلة في رسم ملامح النظرة الاستشراقية.
صحيفة العرب