في محور من محاور منتدى أصيلة الثقافي الدولي، الذي ينعقد في هذا الموعد من كل عام، في مدينة أصيلة المغربية على شاطئ المحيط الأطلسي، دعا محمد بنعيسى، الأمين العام للمنتدى، إلى إخضاع الواقع العربي.. الممكنات والآفاق للنقاش العام!.. وكان بنعيسى على صواب في ظني، حين قال وهو يقدم لهذا المحور، إن إخضاعه للنقاش العام ليس ترفاً فكرياً، ولا هو دردشة ثقافية، بقدر ما هو استجابة لنداء يطارد مثقفينا، ومفكرينا، وأصحاب الرأي فينا، في اليقظة، كما يطاردهم في المنام!
وكنت مدعواً ضمن زملاء وأصدقاء آخرين إلى إبداء الرأي في القضية، وكان تقديري أن المنتدى إذا كان يعقد دورته الأربعين هذه الأيام، فإن نقاش قضية الواقع العربي، بممكناته وآفاقه، لا بد أن يبدأ من هذه النقطة على وجه التحديد، لأن احتفال المنتدى ببلوغه هذا العدد من الدورات، ليس مجرد احتفال بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه ترسيخ ثم تأكيد لفكرتين أساسيتين في حياتنا العربية العامة؛ فكرة الاستمرارية، وفكرة التراكم أو المراكمة.. إذْ ما أحوجنا إلى الترويج للفكرتين على كل مستوى عربي، لا لشيء، إلا لأن الأخذ بهما سوف يُغنينا في كل مرة، عن البدء من عند المربع الأول!
فإذا تجاوزنا هذا المعنى للاحتفال، بدا عنوان محور الواقع العربي، بممكناته وآفاقه مرة أخرى، مغرياً بالبحث عن إجابة شافية لهذا السؤال: لماذا لا يصير الممكن ممكناً في عالمنا العربي، ولماذا لا تنفتح أمامه الآفاق؟! وقد أغراني السؤال ببذل المحاولة تلو الأخرى، للوصول إلى إجابة، وكنت كلما بلورت مشروع إجابة في ذهني، أحسست لسبب لا أدريه، أن الأمر في حاجة إلى المحاولة من جديد، لعل الإجابة عن هذا السؤال العويص تكون دقيقة، وإذا لم تكن كذلك، فليس أقل من أن تكون أقرب إلى الدقة منها إلى أي شيء آخر!
إن الشواهد من حولنا تشير إلى أن الواقع يمكن أن يتغير، وأن الواقع مهما كان سيئاً، ليس قدراً مكتوباً على أصحابه في النهاية، ولا أدل على ذلك من الواقع في أميركا اللاتينية، التي عاشت بمختلف دولها ظروفاً قريبة من ظروف الواقع العربي.. وكذلك حدث الأمر في عدد لا بأس به من دول جنوب شرقي آسيا.. ويكفي أن تقارن حال كوريا الجنوبية، مثلاً، في مطلع ستينات القرن الماضي، بواقعها اليوم، لترى أن الممكن صار هناك ممكناً، وأن الأفق قد انفتح أمامه على آخره، وأننا هنا في المنطقة، لسنا بالتالي استثناءً بين أمم الأرض من النوع الكوري الجنوبي، وأن في إمكان واقعنا أن يتغير، وأن يصبح أفضل، وأن يتوقف سؤاله عن مطاردة المثقفين، والمفكرين، وأصحاب الرأي، في كل حين!
ولسبب مفهوم هذا المرة، أضاءت إجابة للسؤال في ذهني، أظنها دقيقة، أو قريبة من الدقة في أسوأ الأحوال.. ولا بد أن القول هنا بصوابها، أو باقترابها من الصواب، ليس عن رغبة من جانبي في احتكار الحقيقة بالطبع، ولكن لأن إجابة السؤال تتساند على تجربة حية لمفكر مصري، عاش في الولايات المتحدة سبعين عاماً، إلى أن رحل عن عالمنا عام 2015، عن تسعين سنة، بعد أن ترك وراءه سيرة ذاتية عنونها: خارج مصر!
المفكر اسمه إيهاب حسن، وقد درس في كلية الهندسة بجامعة القاهرة إلى أن تخرج فيها متفوقاً، ولكنه غادر العاصمة المصرية بعد التخرج مباشرة، على ظهر باخرة أقلعت من بورسعيد في أغسطس (آب) 1946 إلى واشنطن، وهناك تحوّل دون مقدمات، من دراسة الهندسة إلى دراسة نقد الأدب، حتى صار واحداً من ألمع الأسماء، بين نقاد ما بعد الحداثة في الولايات المتحدة، وكان نُقاد الأدب في القاهرة لا يتوقفون عن الحديث عنه طوال السنوات السبعين التي غابها عن بلاده، بإعجاب شديد، وتقدير أشد.. وقد كانوا في كل أحوالهم يتكلمون عن رجل نسمع عنه، وعن قدراته العقلية العالية، ولا نراه، حتى أصبح في بعض الأحيان أقرب إلى الكائن الخرافي، فكأنه الخل الوفي، أو الغول، أو كأنه العنقاء!
ولأنه كان متفوقاً، فلقد بدا له، في أثناء كتابة سيرته الذاتية، أن يستعرض في ذهنه وليس على الورق، أسماء زملاء له كانوا متفوقين مثله تماماً.. راح يستعرضهم ويسأل عنهم وعن أخبارهم، أين هُم، وإلى أين صاروا، وفي أي أرض استقر بهم المُقام؟!.. وكَمْ كانت دهشته عندما اكتشف، وهو يتقصى أحوالهم، أنهم قد انقسموا كما ذكر في سيرته إلى ثلاثة أقسام: قسم هاجر ولم يرجع مرة أخرى.. وقسم آخر فقد الأمل.. ثم قسم ثالث وأخير قضت عليه البيروقراطية!.. وهو لم يفسر هذه الحالة الفريدة العجيبة، التي انتهى إليها متفوقون زاملوه سنوات الدراسة، وبعضهم كان من بين أصدقائه.. لم يفسر المصير الذي انتهوا إليه.. ولكنه وصف ما وجده، في كتابه الذي صدرت ترجمته عن دار العين في القاهرة أول هذا العام، تاركاً أمر التفسير لمن يحب ويشاء.. وهو مصير على كل حال يغري بالبحث عن تفسير!
ولا يمكن القول بأن حالة إيهاب حسن حالة مصرية مجردة.. لا يمكن.. فهي حالة عربية بامتياز، كما أن زملاءه الذين توزعوا ثلاثة أقسام، بين الهجرة، وبين فقدان الأمل، وبين الوقوع ضحايا للبيروقراطية، هُم كذلك حالة عربية تتوزع وتتناثر على مناطق متفرقة من خريطة العرب!
ونجد أنفسنا، بالتالي، أمام أصحاب عقل، وفكر، ورأي، كان من المفروض في حالة مثل حالة إيهاب حسن وزملائه، أن يضيفوا في بلدهم، فأضافوا.. ويا للمفارقة.. في بلد آخر، وكان من المنتظر أن يساهموا في التغيير في بلادهم، نحو حياه أحسن، فساهموا.. ويا للمفارقة أيضاً.. ولكن في بلد آخر كذلك.. ولذلك لم يصبح الممكن ممكناً في بلادنا، ولم تنفتح الآفاق أمام هذا الممكن.. لنجد أنفسنا من جديد أمام سؤال أصيلة، مُعلقاً في الهواء يبحث عن إجابة!
فما العمل؟!.. العمل أن الممكن سوف يصير ممكناً، وسوف تنفتح أمامه الآفاق، عندما يدرك أصحاب القرار في عالم العرب، أن إيهاب حسن وزملاءه الذين راح هو في كتابه يتحرى أماكنهم، بعد سنين طويلة، إنما هُم حالة، أكثر منهم أشخاصاً، وأن تمكينهم هو بداية الذهاب إلى آفاق مختلفة لواقعنا العربي.. تمكينهم ليس من السلطة طبعاً، ولكن من تشكيل وعي الناس بالأساس، أو من المشاركة فيه على الأقل، وعندها سوف يصبح صاحب العقل، أو الرأي، أو الفكر، رقماً في المعادلة، هو وآحاد الناس بالسواء، وسوف يقع سؤال أصيلة، عندئذ فقط، على إجابته الغائبة!
جريدة الشرق الاوسط