كثيراً ما ترتبط مفارقات الحياة بالموت. وإذ أقول ذلك أجده غالباً ما يرتبط بالحروب. وهو ما ذكّرني بهذا الحلم العجيب المتعلق بجندي بريطاني برتبة عريف، خاض المعارك القاسية ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية، وفي إحدى هذه المعارك في جبهة برما، وفي خضمّ القتال العنيف وجد نفسه في أحد الخنادق. نظر فلاحظ جندياً بريطانياً أيضاً في الطرف المقابل من الخندق. كان متوارياً بالتراب، وكان يلفظ أنفاسه الأخيرة في حالة بائسة. خفّ إليه زاحفاً على رجليه ليسعفه، ولما وصل إليه وجده يمسك بيديه صورة فوتوغرافية عائلية له ولأولاده وزوجته. كان يمسك بها وينظر إليها، ثم سلمها لرفيقه قائلاً: «أعد هذه الصورة لزوجتي وأولادي، سلّم لي عليها». قال ذلك ثم لفظ آخر نفس له ومات وعلى خده دمعة واحدة. لم يستطع أن يقول أكثر من ذلك.
وضع العريف الصورة الفوتوغرافية في جيبه. وانطلق وراء واجباته الحربية في الجبهة. انتهى القتال وانتهت الحرب وعاد الجندي العريف إلى بلده في بريطانيا والصورة معه. تذكر ما قاله له صاحبها القتيل. ولكنه لم يعرف كيف يؤدي الرسالة. لم يكن يعرف اسم الجندي ولا اسم زوجته ولا عنوانها ولا أي شيء عنهما. فوضع الصورة في أحد الأدراج في بيته وتركها ونسي أمرها. فمن أين له أن يتصل بالزوجة ويسلمها الصورة وينقل لها كلمات زوجها الأخيرة؟
مرت أيام وأعوام وسرِّح الرجل من القوات المسلحة وأدركته الشيخوخة بما تحفل به من أمراض وعلل. وفي إحدى النوبات المرضية دخل العريف المتقاعد في حلم من وقائع الماضي. حلم بتلك المعركة ورأى في حلمه ذلك الجندي مطروحاً على أرض الخندق. توقف العريف وانحنى عليه ليخفف عنه. فقال له: «أتذكر تلك الصورة؟ لقد سلمتك إياها. وقد وعدتني بتسليمها لزوجتي. لماذا لم تفعل ذلك؟».
أجابه العريف: «لم أفعل لأنني لا أعرف من أنت ولا ما هو اسمك». أجابه قائلاً: «سنثم. اسمي سنثم». ثم لفظ آخر نفس ومات.
استفاق الرجل من حلمه. وعجب من أمره. سنثم… أحقاً هذا هو اسم ذلك الجندي القتيل أم هي أضغاث أحلام؟ ولكنه عقد العزم هذه المرة على أن يدقق في الموضوع. ذهب إلى وزارة الدفاع وروى لهم الحلم وذكر الاسم. نظروا في السجلات. ألوف الجنود باسم سنثم. ولكن مَن منهم حارب في جبهة برما. مئات باسم سنثم. ولكن أيّ سنثم من هؤلاء السناثم قُتل في ذلك اليوم وخلّف أولاداً وزوجة؟ هكذا واصل التحقيق وتقليص الدائرة حتى وصل إلى الشخص الذي تنطبق عليه كل الأوصاف.
والآن بقي أن يعرف أين ذهبت أرملته بعد كل هذه السنين. هل بقيت حية؟ واصل البحث ولم ينقطع منه حتى عثر على عنوانها. طرق الباب وإذا بامرأة عجوز تفتح له الباب وتسأله عما يريد. عرض عليها الصورة الفوتوغرافية التي أكل عليها الزمن. سألها: هل تعرفين هذا الرجل؟ نظرت فيها وهتفت: سنثم!! إنه زوجي!
جريدة الشرق الاوسط