ثمّة من يلتفت إلى الكتابة دون تخصيص وقت لقراءة ما يكتبه الآخرون من بني جيله، وممن يقاسمونه المشهد الكتابي في بلده على أقل تقدير. يشبه الأمر حال الطاهي الذي ينصرف إلى الطبخ دون رغبة منه في تذوّق أطباق زملائه الآخرين، وذلك إمّا لغرور وإما لثقة مفرطة في النفس يبررها صاحبها بعدم رغبته في “إفساد ذائقته”.
وثمّة من يمارس القراءة دون حاجة إلى الكتابة، وعاش من عرف قدره فوقف عنده، ذلك أن الذوّاقة لا يتحوّل بالضرورة إلى منتج للإبداع أو ناقد له، فالقراءة المركزة والنهمة ليست بالضرورة طريقا نحو الكتابة كمصير حتمي، حسب ما يتوهم المدرسيون. وكلّما أوغلنا في قراءة الروائع صعبت علينا الكتابة.
أمّا الذين فشلوا في الكتابة الإبداعيّة وتحوّلوا إلى النقد ظنّا منهم أنّ “النبيذ الفاسد يمكن أن يكون خلاّ جيّدا” فقد فاتهم أنّ النص النقدي هو ذاك الذي يناظر الأثر الإبداعي، لا يقاربه ولا يشرحه، وقد يعلو عليه ولا يلاحقه، فللعنب وظيفة تختلف عن وظيفة الحصرم دون مفاضلة بين هذا وذاك.
وثمّة فئة، وهي الأشد غرابة، تمارس القراءة والكتابة، ولا تمارس الحياة فاستحال أصحابها إلى كائنات ورقيّة أدمنت ابتلاع الكتب، نافذتها الوحيدة للإطلالة على الحياة التي استبدلتها بأخرى ورقية.
ليس المطلوب، طبعا، من هؤلاء أن يدخلوا السجون كي يتحدثوا عن السجن، ولا أن يزجوا بأنفسهم في المنافي كي يلامسوا الإحساس بالغربة، فلقد كتب الروائي السوري حنا مينة عن البحارة بإدهاش وهو على الشاطئ وقدماه على اليابسة، لكن من يكتب عن الحب، وعن المدن والمهمشين والمشردين والكادحين دون أن يعيش أو يعايش التجربة، تبقى مغامرته في الكتابة قفزة في الهواء، وتظل كتابته خالية من النبض، عديمة النكهة وقاصرة في التبليغ والتأثير.
الكتابة إذن هي فعل الصّداقة مع الحياة بعد صراع دائم وطويل وشرس مع الحياة، إنّها ارتياح للقلق، مصالحة مع اللاتصالح، ومحاولة فاشلة للاندماج مع الذّات والآخر.
لعل الكاتب الحقيقي، وفي بعده الملحمي، هو ذاك الذي لم يتقصّد يوما أن يكون كاتبا بل اختارته الكتابة ولم يخترها. إنه يمارسها على مضض كمصير حذّرته منه العرّافات.
الكتابة بترف أو لمصلحة ما، تشبه الرقص لغاية تخفيف الوزن وليس لأجل الرقص كمفهوم يختصر شعرية الجسد ويحدث عنه. بعضهم يرى في الكتابة نوعا من الامتياز، وضربا من الوجاهة الاجتماعية.
قال أحد الكتاب: لو يعلم بعض المتنطعين عن الكتابة بأنها تقصّر الأعمار وتسبّب التجاعيد وترهق الجفون وتكثر من الأعداء لابتعدوا عنها.
الكتابة شكل من أشكال الذهاب نحو الآخر، وليست لغرض الانتقام وتصفية الحسابات. ولعل الحادثة التالية تؤكد جوهر الفكر القائل إن الكتابة فعل تقدير ومسامحة في أبهى معانيه:
أراد ابن العميد، وهو أحد معاصري المتنبّي، أن يؤلّف رسالة في مثالب مالئ الدنيا وشاغل الناس، رغبة منه ومن بعض المتآمرين في الحطّ من شأن أبي الطيّب. وقبل أن يغمس ريشته في الحبر، جاءه خبر وفاة ابنته البكر، وكانت حادثة قاصمة الظهر. انهالت عليه رسائل التعازي وكان أكثر من ستّين منها تبدأ عبارتها ببيت لم يجدوا أنسب منه، يقول “طوى الجزيرة جاءني خبر فجزعت فيه بالآمال للكذب”، وكان البيت للمتنبّي في مرثيته لشقيقة سيف الدولة، ساعتها أعاد ابن العميد ريشته إلى غمدها وقال في صمت وحيرة يحدّث نفسه ويعاتبها: لم يأتني شعر أفصح ممّا قاله هذا الذي هممت بهجائه، كفّ عن الهراء يا ابن العميد ولا تهج أبا الطيّب بعد اليوم فله ترفع الأقلام وتجفّ الصحف.
كذا يكون الاعتراف في أبهج حالاته، من النبلاء إلى النبلاء ومن الرجال إلى الرجال وكذا تكون الكتابة، فعل تطهير أو لا تكون
صحيفة العرب.