أمران أساسيان قد يلفتان النظر في ما يتعلق، من ناحية بالأصل الفرنسي لكتاب «هوية فرنسا» الذي كان آخر عمل كبير يضعه واحد من أكبر المؤرخين الفرنسيين في القرن العشرين؛ ومن ناحية ثانية بالترجمة العربية التي صدرت للكتاب في مصر ضمن منشورات «المركز القومي للترجمة» من تحقيق واحد من كبار المترجمين المصريين، بشير السباعي. فمن ناحية لافت أن غلافي النص الأصلي للكتاب، وتحديداً بالصيغة التي لا شك في أن فرنان بروديل، مؤلفه نفسه هو الذي وضعها حين كان يجري الإعداد لإصدار الجزءين الأولين من الكتاب، على أن يليهما جزءان آخران حال رحيل بروديل (1986) دون ظهورهما، حمل كل منهما لوحة لفنسان فان غوغ، ومن ناحية ثانية تحمل أغلفة الترجمة العربية، التي بين أيدينا إشارة إلى أننا هنا بصدد الطبعة الثانية. ويا للغرابة: كتاب يبلغ مجموع صفحات ترجمته أكثر من ألف صفحة من القطع الكبير، يصل إلى طبعته الثانية في زمن تصل أزمة الكتاب والقراءة إلى ذروة تفاقمها! وأكثر من هذا كتاب تبدو «محليته» منذ عنوانه ولا يتوانى ألوف القراء العرب عن اقتنائه وقراءته! حسناً لن نغوص هنا في تحليل هذه «الظاهرة العربية» الغريبة، لكننا في المقابل، سنعود إلى الأمر الأول لنشير الى أنه يمكنه أن يعكس تماماً، وبأكثر كثيراً مما يخيّل للمرء، جوهر هذا الكتاب ورسالة بروديل فيه: فصحيح إن اللوحتين هي لمشاهد فرنسية صميمة- ما يتناغم مع موضوع الكتاب بالطبع-، لكنهما من رسم «الأجنبي» فان غوغ، ما يتلاءم هذه المرة مع الإستنتاج الإجمالي الذي يتوصل اليه بروديل، وكان من شأنه طبعاً أن يتوسع فيه لو تمكن من إنجاز جزء رابع من كتابه كان يخطط ليتناول فيه شؤون الثقافة والفكر ضمن إطار اهتمامه بالبحث عن «الهوية» الفرنسية.
> إذاً، في شكل من الأشكال، كان بروديل يريد لكتابه أن يكون كتاب مساجلة وربما حتى كتاب معركة، من حول فرنسا، ولكن أيضا من أجل فرنسا.
تلك التي يقول في أول سطور تقديمه للكتاب «دعوني أبدأ بأن أقول، مرة وإلى الأبد، أنني أحب فرنسا إلى حدّ الهوى الملحّ والمركّب نفسه التي أحبها بها جول ميشليه، من دون تمييز بين جوانبها الحسنة وجوانبها السيئة، بين ما يعجبني وما أجده عسيراً على القبول… لكن هذا الهوى، نادراً ما سوف يفيض على صفحات هذا الكتاب». ولئن كان بروديل لا يقول لنا بوضوح كنه ذلك الهوى الخاص الذي يستشعر به تجاه هذا البلد، فإنه في المقابل يتنطح كي يقول لنا على مدى مئات الصفحات ما هي تلك الـ «فرنسا» التي يحبها إلى هذه الدرجة. ولعل في إمكاننا أن نضيف هنا، قبل التوقف عند الكتاب ذاته، إن ما قد يكون في خلفية النجاح الغريب للترجمة العربية، وهو نجاح كان أيضاً من نصيب العديد من الترجمات إلى لغات أخرى للكتاب ذاته، ليس موضوعه تحديداً، بل بالأحرى الطريقة التي اشتغل بها بروديل على الموضوع، لغته، أريحيته، أسلوبه التشويقي، وقدرته على أن يكون قريبا من قارئه إلى أبعد الحدود، ما يجعل كتابته تتسم بتلك القدرة الفائقة على أن تكون ممتعة، ومفيدة وملتصقة بالقاريء، على رغم علميتها الصارمة واستفاضتها في الاشتغال على المراجع. ويقيناً أن هذا كله هو ما يعطي كتابة بروديل خصوصيتها ويجعل له قراءً متابعين يتلقون بكل لهفة كل ما يصدر، وبالتالي، يترجم له حتى ولو كان عملاً تقنياً شديد الأكاديمية مثل «قواعد الحضارات». كتب بروديل تُقرأ كنصوص حكواتي حقيقي لكنها في المقابل تبدو عصية على الترجمة لكثرة ما فيها من تفاصيل وأسماء واستطرادات، ومن هنا العمل المدهش الذي حققه بشير السباعي في ترجمته، على رغم ما قد يؤخذ عليه من مبالغته في استخدام مئات الكلمات في أصلها الفرنسي من دون أن يحاول البحث عن معادلات عربية لها، حتى وإن كان السبب مفهوماً: فنحن هنا أمام سرد بالغ المحلية، بل أمام كتاب لا يفوته أن يذكر كيف أن من ضمن سمات الهوية/ الهويات الفرنسية صعوبة أن يفهم ابن الجنوب أحياناً لغة إبن الشمال والعكس بالعكس. ولعل هنا يكمن جوهر نصّ بروديل.
> ذلك أن ما يحاول بروديل قوله هو بكل اختصار إنه إذا كانت هوية فرنسا تتميز عن العديد من الهويات الأخرى ولا سيما في العالم الأوروبي والمتوسطي الذي تشكل جزءاً منها، فإنها تتميز بكونها هويات تلاقت على مدى أزمان عديدة لتشكل تلك الهوية «الواحدة» المتشعبة الكريمة، ذلك الوعاء الذي تكمن عظمته في تنوعّه.
وبروديل لكي يصل الى هذه الفكرة التي تبدو للوهلة الأولى بالغة البساطة وحتى البديهية، إلى درجة غير قابلة للتصديق، يشتغل على العلمين الأساسيين الذين أمضى حياته كلها في رحابهما: الجغرافيا والتاريخ معاً، وانطلاقاً طبعاً من مفهوم الديمومة الزمنية الذي يعرف قراؤه أنه حكم كل كتاباته السابقة وفي مقدمتها طبعا سفره عن :»البحر الأبيض المتوسط في زمن فيليب الرابع» وتحفته العلمية الأدبية عن «الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية…». بل إن قراءة «هوية فرنسا» قد تضعنا أمام اقتراح يقول إن تلك الأعمال الضخمة التي استغرقت من بروديل سنوات عمره كلها تقريباً، إنما هي كتابات وضعت ضمن مخطط كان لا بد له أن ينتقل تدريجاً من فساحة العالم والعالم المتوسطي، ليصل، في كتابه «هوية فرنسا»، إلى الإطار الفرنسي، وذلك بالتواكب مع تطور الكتابة التاريخية على طريقة مجلة «الحوليات» وتيارها الفكري الذي كان بروديل على أي حال أحد أقطابه ثم أشهرهم وأكثرهم اقتراباً من «عامة» القراء، أو على الأقل من جمهرة عريضة من قراء تتجاوز الإطار الضيق للمهتمين علمياً بالتاريخ أو بالجغرافيا.
> إذا تبعاً لمساره المعتاد، ولمسار «الحوليات» بالطبع، لا يهتم بروديل هنا في هذا التاريخ الجديد الذي يرسمه لفرنسا، بالحوادث والحقب السياسية أو بحكايات الحروب والملوك، فهذه كلها قد تشكل لحظات يمكن التوقف عندها ولكن عرضا لرصد الكيفية التي تؤثر بها على التاريخ الحقيقي: تاريخ البشر وحياتهم اليومية. كيف يبنون مجتمعاتهم. كيف يعيشون ويقيمون التبادلات فيما بينهم. كيف تنمو الزراعة والصناعة وكيف تنشأ القرى والبلدات والمدن ولماذا تنشأ، وهو يهتم بهذا بأكثر مما يهتم بكيف تنشأ الأمم، بل قد يرى أن نشوء الأمم ينتمي إلى الأمور العارضة على عكس قيام مدينة ما والعلاقات التي تقيمها مع بيئتها المجاورة سواء كانت علاقات إقتصادية تقوم على التبادل، أو على تقاطع المسارات وما يواكبها من شق للطرقات وازدهار أو اندحار للملاحة النهرية، وكيف يتكاثر سكان منطقة ما أو يختفون مثلاً، أو كيف يحدث ان تبدل منطقة من أساليبها الزراعية أو حتى من توجه منتوجها الزراعي، ربما على ضوء التغير المناخي، أو على وقع المنافسة مع مناطق أخرى.
> في هذا الإطار، لم يكن غريباً أن يفتتح بروديل كتابه بعبارة لسارتر تقول: «تنساب سيرورة صنع التاريخ دون وعي من التاريخ بها». وهو بالتأكيد تفسير بالغ الدقة. وللتيقن من هذا حسبنا مثلاً أن نتمعن في تلك الصفحات التي يدرس فيها بروديل الكيفية التي تطورت بها مدن مثل بيزانسون وروان وحتى ليون وصولاً إلى باريس، هنا في هذه السياقات نادرا ما نجد المؤرخ يتوقف عند الأبعاد المسماة عادة سياسية لذلك التطور: إذ قد يكون صحيحاً أن السياسة تلعب دور ما، لكنه دور ينبع أصلاً من مئات الأدوار الأخرى، الاقتصادية والدينية، والبيئية والجغرافية والمناخية فهي جميعا، السياسة الحقيقية، «سياسة الديمومة الطويلة» التي هي ما يصنع التغيرات البطيئة، في حركة التاريخ كما في حركة الذهنيات كما يؤكد لنا المؤرخ. ومن هنا ما يوزعه بروديل من عناوين على أجزاء كتابه: «المكان والتاريخ»، وفيه «فرنسا اسمها التنوّع» و«تماسك الاستقرار في المكان»، وصولاً إلى التساؤل في واحد من أغنى فصول هذا الجزء: هل جغرافية فرنسا هي التي خلقتها؟ ليعود في القسم الثاني وعنوانه «الناس والأشياء» ليبحث في سكان فرنسا منذ ما قبل التاريخ الى العام ألف، ثم من العام ألف إلى أيامنا، قبل أن يشتغل على الاقتصاد الفلاحي الفرنسي حتى القرن العشرين، ثم على البنى الفوقية، التي تبدو هنا غير مكتملة إذ كان يقدّر استكمالها في واحد من الجزءين الذين لم يكتبا. ومهما يكن من أمر هنا، هل مهمّ هذا اللاإكتمال في عمل لا يريد أن يحكي التاريخ بمقدار ما يقول كيف يجب أن يُكتب التاريخ؟
جريدة الحياة