ذات مرة اقتنيت كتاباً من تلك التي توصف بالكتب المستعملة، من بائع على الرصيف في أحد شوارع مدينة أوروبية. كان كتاباً نادراً في النقد الأدبي، يتناول أعمالاً روائية مهمة من كلاسيكيات الأدب الأوروبي.
ليس سعره الزهيد نسبياً، قياساً لأسعار الكتب المعروضة في فاترينات المكتبات، هو ما أغراني، وإنما كونه كتاباً نادراً لن أجد نسخاً منه في أي متجر لبيع الكتب، فتاريخ صدوره يعود إلى عقود مضت.
حين استويت على مقعدٍ في مقهى مجاور ليس بعيداً عن المكان الذي افترش الأرض فيه البائع الذي منه اقتنيت الكتاب، راودني خاطر: من تراه يكون الشخص الذي اقتنى الكتاب أول مرة؟ «كتاب مثل هذا، هكذا فكرت بيني وبين نفسي، لا يقتنيه إلا شخص مهتم»، فلا أحسب أن قارئاً عادياً سيكون له من الجَلد ما يحمله على قراءته.
وفكرتُ أيضاً: لماذا تخلص الرجل من نسخة الكتاب هذه، فباعها لبائع الكتب الذي بدوره عرضها للبيع بسعر أعلى من ذاك الذي دفعه لصاحبه؟ أتكون ضائقة مالية حلّت به حَملته على أن يتخلص مما في مكتبته من كتب، كي يؤمّن بثمنها ضرورات عيشه؟
خطر هذا في ذهني لأني أعلم أن كُتّاباً كباراً فعلوا هذا بالفعل في مراحل من حياتهم مضطرين، وهذا ما حدث مثلاً لنخبة من خيرة أدباء ومثقفي العراق فترة الحصار الجائر الذي فرض على بلادهم قبل أن تستباح أراضيه بقوات الغزو الأمريكي – البريطاني، فكان عليهم أن يؤمنوا ثمن دوائهم وربما عيشهم من بيع ثروتهم من الكتب النادرة التي جمعوها على مدار سنوات.
لكني فكرت أيضاً: أيكون الرجل صاحب الكتاب قد مات، وآلت مكتبته إلى ورثته الذين لا شأن لهم بما كان هو عليه من شغف بالكتب، ولذا فإنهم ليسوا في وضع من يقدّر قيمة كل كتاب من الكتب المصفوفة في أرفف مكتبته أو المتراكمة في صناديق، فقاموا بالتخلص منها ببيعها، فآلت لي، أنا المحظوظ، فرصة اقتناء واحد منها هو الذي بين يديَّ الآن؟ بدأت في تصفح الكتاب بدءاً من المقدمة فوجدت أن صاحبه أكثر من وضع الخطوط تحت فقراتها، وعلى طرف كل فقرة كتب عبارات من نوع: مهم، مهم جداً.. إلخ، إضافة إلى عبارات أو شروحات تلخص فكرة الفقرة، أو تضع عنواناً لها.
شدّني ذلك. انهمكت في مطالعة التدوينات والهوامش، كأنني كنت أقرأ «قراءة» صاحب الكتاب له، لا الكتاب نفسه.
جريدة الخليج