هذا موضوع طالما تردد في كثير من الأشعار والأقوال الشعبية. تسمع الألمان يقولون: كما تفرش الفراش تنام عليه. وفي الأردن يقول الناس: المرايا مثل ما بتفرجيها بتفرجك، وهو مصداق للقول الجاري في سائر المناطق الزراعية: مثل ما تزرع تحصد. وهو ما يوازي المثل الدارج بين البلغار: من يجلس تحت شجرة كمثرى يشبع من أكل الكمثرى.
أما عن أصل المثل القائل: إنما نعطي الذي أعطينا فيروي ابن الأعرابي أن امرأة ظلت تنجب بنات لزوجها حتى يئس من الحصول على ولد ذكر منها فهجرها وسكن داراً مجاورة. وبعد أن طال انتظار المرأة لعودته بعثت له برقعة كتبت فيها تخاطبه:
ما لأبي الزلفاء لا يأتينا – – – وهو في البيت الذي يلينا؟
يغضب إن لم نلد بنينا – – – وإنما نعطي الذي أعطينا
الواقع أن هذه المرأة البسيطة نطقت بحقيقة عالمية قلما يدركها الناس، فقد ثبت في علم الوراثة أن جنس الجنين، ذكراً كان أو أنثى، يتوقف على الجينات التي تحملها حيامن الرجل وليس التي تحملها بويضة المرأة. وهذا على عكس الصلع الذي يرثه الرجل من أمه، أو بالأحرى من سلالة أمه. وهذا أمر قد يبدو شاذاً فقد اعتاد الصلعان أن يقولوا إنهم ورثوا صلعتهم من والدهم، وهو خطأ. الصحيح أن يقولوا من أمهم.
يبدو أن أجدادنا أدركوا هذه الحقيقة الوراثية، فكانوا يصفون الرجل الذي يخلف إناثا فقط فيقولون إنه رجل مئناث. ولكننا أخذنا بإلقاء المسؤولية على المرأة فقلنا «ثلثين الولد على خاله». أو كما يقول المصريون «البنت على عمتها والولد على خاله». ينظر هذان المثلان إلى عصور الأمومة، يوم كانت المرأة هي التي تسود العائلة وإليها ينتسب الأولاد. وهو الموضوع الذي شغل شعراء الإغريق في الأسطورة الملحمية المعروفة بالأورستيا.
تقتل فيها كلتمنسترا زوجها أغممنون وعندما يشب الابن أورستيس ويكتشف خيانة أمه لأبيه وقتلها لأبيه يبادر للثأر لأبيه بقتل أمه وعشيقها. ويجلب ذلك عليه غضب الأرنيس (عفاريت النقمة والغضب) فتطارده وتذيقه العذاب أينما حل وارتحل. يستنجد الشاب بأبوللو الذي ينصحه بعرض شكواه على أثينا، سيدة الحكمة.
وفي المرافعة التي جرت أمامها يدافع أورستيس عن نفسه بقوله إنما قتل أمه ثأرا لوالده فترد عليه الأرنيس بأنه لا صلة له بأبيه. صلته الحقيقية مع أمه. إنها رابطة الدم. تطرح أثينا مقولات الطرفين على المحلفين. فينقسم هؤلاء بالتساوي. وتضطر أثينا إلى الإدلاء بصوتها فتضيفه إلى الجانب المؤيد لأورستيس. وفعلت ذلك لأنها لم تعرف الأمومة فقد كان لها أب ولم تكن لها أم.
فسر الباحثون ملحمة الأورستيا بأنها تمثل انتقال المجتمع من مرحلة الأمومة إلى مرحلة الأبوية.
بيد أن القول المأثور «إنما نعطي الذي أعطينا» لا يقف طبعا عند حد الانتساب والإنجاب والوراثة، وإنما يتعداه فيكتسب أبعادا فلسفية عامة تشير إلى التوازن بين ما تستثمر من جهد وما تجني من وراثة. وعلى غرار ذلك يقولون في السعودية: كل جمرة على قد عودها. وأيضا «عود الورد ما يثمر تنباك». ويقولون في مصر: «ما يفعله الآباء مخلف للأبناء».
جريدة الشرق الاوسط