العالم يحتفي بذكراه … وترجماته العربية اكتملت مع رفعت سلام
المتأمل في صورة شاعر الديمقراطية الأميركية والت ويتمان الذي يحتفي العالم بالذكرى المئوية الثانية لولادته (31 مايو/أيار 1819 – 26 مارس/ آذار 1892) بعد مرور مئة عام على مولده، تستثيره ربما تلك التقلبات المرعبة التي صادفت المزاج الأميركي في تلقي شعره منذ أن أصدر الطبعة الأولى لعمله الفريد “أوراق العشب” عام 1855. فباستثناء موقف الشاعر والمفكر رالف والدو إمرسون المُعضِد بقوة والمبشر بشعرية ويتمان، تعرضت الطبعة الأولى من “الأوراق” لنقد لاذع حتى من هؤلاء الشعراء الذين احتسبوا في ما بعد كرواد للحداثة الأميركية. فقد امتنعت إميلي ديكنسون عن قراءة “أوراق العشب” لأن هناك من نصحها بذلك، واصفة أشعار ويتمان بالمشينة، على الرغم من أنها متهمة، مثله، بالمثلية الجنسية. لقد ناهضت الأرستقراطية الأميركية كلها شعر ويتمان، وكان موقفها في ذلك متسقاً مع كونها طبقة محافظة وتقليدية تقدس النماذج الأخلاقية على الرغم من أن الشعر الأميركي بعد تينسون ظل مجرد وعاء لإعادة إنتاج الماضي بما في ذلك استمراء تقليد وسرقة شعر تينسون نفسه. وتبدو تقاليد الطبقات المحافظة واحدة في كل مكان، فقد تعرض بودلير في فرنسا لواقع أكثر فظاظة عندما صودر ديوانه “أزهار الشعر”، لذلك كان ينعت تلك الطبقة بنعوت غائرة عندما قال “إنها الطبقة التي تقدس الغائط والجهل في آن”. وربما كان ويتمان الأتعس حظاً في ذلك لأن المقاومة التي لقيها ديوانه لم تكن فحسب مقاومة سلطوية بل كانت مقاومة امتدت لنخبة النقد والفكر معاً لدرجة دفعت البعض لوصف شعره بـ “القيء”. لكن ثمة طاقة من الأمل تتولد مع دعوة الفكر والشاعر رالف والدو إمرسون لصعود شاعر أميركي جديد يضرب عرض الحائط بالتقاليد الكلاسيكية التي أغرقت الكتابة الأدبية على عمومها والشعر على نحو خاص حتى منتصف القرن التاسع عشر، وهو ربما أمر يفسر احتفاء إمرسون بالطبعة الأولى من ديوان “أوراق العشب”، وهو احتفاء نادر في وقته، حيث بعث برسالة لـ ويتمان يقول فيها: “إنني أحييك في بداية مستقبل عظيم، لا بد من أن يكون له أساس طويل من قبل؛ حتى يبدأ مثل هذه البداية. لقد فركت عيني كيما أتأكد أن شعاع الأمل ليس وهماً، ولكني حين ألمس الكتاب بيدي أعرف أنه يقين يردني إلى الواقع”. وقد ظل ويتمان يحتفظ بنص الرسالة في جيبه ليعود إليها دائماً، ثم قام بنشرها في الصحف وجعل منها مقدمة للطبعة الثانية من الأوراق من دون أن يعلم إمرسون عن ذلك شيئاً.
ثلاث ترجمات عربية
تسنى لي أن أطالع ثلاث ترجمات عربية مهمة لشعر ويتمان أولها للشاعر سعدي يوسف، وهي عبارة عن مختارات أعادت دار المدى طبعها منقحة عام 1998، وهي مختارات تعكس انحيازات سعدي الشعرية والفكرية في آن، وكانت أكثر ميلاً إلى الشعر الصافي في المراحل الأولى لويتمان، لكنني أتصور أن مقدمة سعدي هي الأخطر والأذكى على الإطلاق. فعلى الرغم من حبه ويتمان إلا أنه توقف أمام مفاصل مؤثرة في اختياراته السياسية وانحيازاته الفكرية وهو ما تكشف من موقفه المدافع عن الاتحاد وعلاقته بإبراهام لنكولن، ثم علاقة بالمفكر والشاعر رالف والدو إمرسون، ثم علاقة إمرسون نفسه بفيلسوف المثالية هنري ثورو. أما الترجمة الثانية فهي المختارات المهمة التي قدمها ماهر البطوطي وصدرت عن هيئة الكتاب في مصر عام 2006 بمقدمة ضافية للحقبة التي ارتبط فيها ويتمان بالسياسة، حتى أن المختارات نفسها حملت عنواناً فرعياً لها هو “ذكرى الرئيس لنكولن وقصائد أخرى”. وهي مقدمة اهتم فيها البطوطي بأصداء الحرب الأهلية الأميركية في شعر ويتمان. أما الشاعر المصري رفعت سلام فقدم الترجمة الأكمل للأعمال الكاملة لويتمان التي اعتمدت على آخر طبعات “أوراق العشب” التي أطلق عليها “طبعة فراش الموت”، وقد كانت آخر ما راجعه ونضده ويتمان بنفسه، وهي ترجمة صدرت عن هيئة الكتاب في مصر عام 2017. لكن مقدمة رفعت جاءت اعتيادية ولا تحمل ما هو لافت، ربما لأنه اعتمد على مقدمة ضافية تصدرت ترجمته لكل من إد فولسوم، وكينيث م. برايس.
أما سعدي يوسف الشاعر الكبير والمثقف الذكي، الذي يحب ويتمان لا شك، فيتوقف أمام دور ويتمان السياسي ويبدي إعجاباً متحفظاً بالقصائد المؤثرة التي كتبها في الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن، حيث انطلقت، مع صعوده سدة الحكم، الحرب الأهلية عام 1861 واستمرت حتى اغتياله عام 1865 إبان ترشحه لولاية ثانية. لقد كان ارتباط ويتمان بالحلم الأميركي الجديد نابعاً من رؤيته للمركز الأوروبي المتهاوي الذي كان يصفه بالقدامة والعجز، وكان على الجانب الآخر يحتفي بكل تفاصيل أميركا الجديدة من أسماء الأماكن إلى أسماء الطيور إلى صحبته وكتابته عن كل المهنيين في أميركا الجديدة: البحار، السائق، الجندي، الفنان، الصياد، المزارع، المدرس، العاهرة، أوراق الأشجار. هذا يعني أن حسية ويتمان جزء صلب من تصوراته عن الشعر من ثم فإن سخرية سعدي من وصف ويتمان بالمتصوف تصادف محلها تماماً، يعزز هذا الرأي ما يقوله هارولد بلوم من أننا يمكننا أن نصف ويتمان بأي شيء إلا أن يكون ناسك الروح، وهو الأمر الذي يتبدى في الحسية الطاغية التي تكلل قصائده.
وربما كان ارتباط ويتمان بالحلم الأميركي الجديد سبباً في انحيازه الكبير ودعمه اللانهائي لإبراهام لنكولن في حلمه بالاتحاد الأميركي حتى تم حسم المعركة لصالح الاتحاديين ضد الكونفيدراليين بعد معارك طاحنة ذهب ضحيتها ما يربو على المليون قتيل وجريح ومعاق. كانت معركة الاتحاد بين ولايات الجنوب الذي كان يدافع عن استمرار الرق تحت تأثير نفوذ الإقطاعيين الكبار وطبقة كبار ملاك الأراضي، بينما كان حلم الحرية قادماً من الشمال ينشد دولة الحرية الجديدة، لكن ويتمان الذي عمل ممرضاً للجرحى بعد إصابة شقيقه في تلك الحرب، لم يكن يفرق في عمله بين جنود الشمال وجنود الجنوب تعضيداً لموقفه من وحدة البشر ووحدة المصير الإنساني، بحسب ما تؤكد عشرات من قصائده. وقد اعتبر النقد أن قصائد ويتمان عن الديمقراطية التمهيد الأخلاقي والفكري لمعركة القضاء على الرق في الولايات المتحدة، إلا أن نقاد اليسار اعتبروا أن تصورات ويتمان عن الديمقراطية تصورات مثالية وطوباوية إلى حد بعيد لأنها لم تخدم في النهاية سوى تحولات مريرة خاضتها الرأسمالية ضد كل البشر بمن فيهم أبناء الاتحاد الجديد، لذلك كان الناقد الروسي لونا تشارسكي 1875ـ 1933، يصف تلك التصورات بأنها “ديمقراطية صغار المنتجين”، كما يشير سعدي يوسف في مقدمة مختاراته لويتمان، وعلى الرغم من أن سعدي تعمد ألا يتوسع في تلك الإشارة إلا أنها تبدو ملاحظة ضرورية لمن يريد أن يفهم دلالة تلك الإشارة. ففي تعريفه لرأس المال يقول ماركس إن الرأسمالية هدفها النهائي السيطرة على صغار المنتجين فيضطرون للانسحاب من دورة الإنتاج ليصبحوا بالضرورة أجراء لدى أصحاب الاحتكارات الأكبر منهم؛ بحيث يحددون في النهاية سقف فائض القيمة لمنتج هؤلاء الصغار، وهو الأمر الذي حدث مع كل أصحاب المهن وصغار الصناع والحرفيين في الولايات المتحدة، بما في ذلك السائقون الذين استأثروا باهتمام ويتمان، حيث كان صديقاً لكثيرين منهم حتى أن بعضهم أصبح، في ما بعد، من خاصة أصدقائه.
عربة الشاعر
لقد كان مصير الطوباويين في الفكر الأميركي مؤسفاً، فـويتمان نفسه عاش معظم حياته من خلال تبرعات أصدقائه، لا سيما بعد فصله من وظيفته بوزارة الداخلية عام 1874 على يد وزير جمهوري محافظ كان قساً سابقاً، بدعوى أن ديوانه يحض على الانحلال. كان الرجل قد قارب الستين في هذا الوقت وبعد أن أصيب بالشلل إثر جلطة دماغية لم يكن قادراً على الحراك، تبرع له عشرات من أصدقائه، بينهم مارك توين، بشراء عربة تجرها الخيل حتى يتمكن من التنقل بين الحين والآخر، وهذا هو الثمن الذي حصل عليه ويتمان من مثاليته. وربما كان بحثنا في الأسباب العميقة لإعجاب إمرسون بوالت ويتمان يفسر شيئاً من علاقة إمرسون نفسه بالفيلسوف الطوبوي هنري ثورو. فقد كان إمرسون مثالياً ومؤسساً لمذهب التسامي حيث على كل الكائنات تنمية الجوانب المتسامية في طبيعتها، من هنا اعتبر أن الإنسان طاقة إلهية يجب أن تنفتح دائماً على التسامي، أما هنري ثورو فقد اعتزل الحياة المدينية وعاش مع الكائنات الحية واستأنسها ورفض الزواج، وكان دائماً يقول إن الطبيعة هي عروسه، وقد رفض سداد الضرائب لأنه كان يري أن الدولة تمول منها عنف كبار الملاك في قمع العبيد. لكن ما حدث أن أميركا الجديدة لفظت فلسفة ثورو وإمرسون على السواء لتحل محلها الفلسفة البراغماتية ويحتل جون ديوي قائمة أهم المفكرين الأميركيين المؤسسين. ولا أعرف كيف لـ ويتمان، لو كان حياً، أن يقرأ مثل هذا المصير، لا سيما عندما نطالع مصائر الشعراء في حديث لشاعر بحجم فرانز رايت الحاصل على جائزة “بوليتزر عام 2004” عندما يقول: “إنه شيء مهين. فالشعراء يعانون والكتاب يعانون. وثقافتنا لا تقدر الشعر، وهي تصيب الشعراء بالجنون، لكن ينبغي على المرء أن يخاطر”.
وعلى الرغم من تلك الملاحظات التي يمكنها أن تكون مساراً لإعادة النقاش حول أفكار والت ويتمان ومعتقده الشعري، إلا أنه، في النهاية، استطاع الاحتفاظ بمكانة سامية ومرموقة في الشعر العالمي، واسمه الآن يطلق على الملاعب الكبرى والطرق والشوارع كما يملأ شعره محطات المترو. وقد عاش محل اهتمام الليبراليين كما راجت أعماله لدى الاشتراكيين أيضاً، لأنه أسس لنموذج إنساني في الحياة وفي الشعر يتجاوز المذهبية ويعزز معاني الحرية بكل صورها، ولم يمر وقت طويل إلا وكان ويتمان محل تقدير أسماء مؤثرة في الأدب العالمي مثل تينسون، سوينبرن، أوسكار وايلد، إدوارد دون، وليم مايكل روزيتي. وقد كان سوينبرن يرى ويتمان في عظمة وليم بليك، حتى أن عزرا باوند وإليوت غيّرا موقفهما من شعره، لدرجة دفعت بعض النقاد إلى وصف شعرهما بأنه لا يخلو من نُسْغِ والت ويتمان.