بمقدار من المقادير، فإن كل التواريخ مُزيفة. التاريخ الحقيقي هو في مكان آخر غير ذاك الذي في الأذهان، أو في الكتب.
هذا لا يعني أن كل ما نحسبه تاريخاً، سواء تعلمناه في المدارس والجامعات، وقبل ذلك في البيوت، وبعد ذلك فيما قرأناه بجهودنا أو برغبتنا في المعرفة، هو خاطئ على إطلاقه، أو أنه لا ينطوي على مقادير قد لا تكون قليلة من الحقيقة، لكنها ليست الحقيقة كاملة.
ثمة وقائع حدثت في التاريخ، ناهيك عن الأحكام حول هذه الوقائع، يتم إقصاؤها قسراً أو طوعاً، من أذهاننا، وبالعكس هناك وقائع، إما أنها لم تجر فعلاً، أو أنها جرت بصورة مغايرة يتم فرضها، قسراً أو بصورة مخملية، على أذهاننا، وتجد لنفسها طريقاً في الكتب التي منها نتعلم التاريخ.
التاريخ الصافي، أي الحر من التأويلات، لا يوجد ولن يوجد على ما يبدو. لا بمعنى أن الوقائع التي هي موضوع التاريخ لم تقع فعلاً، وإنما لأن طريقة تلقينا لأخبار هذه الوقائع، وقد باتت تاريخاً، لا يمكن أن تكون صافية، أو حرة من التأويلات التي يفرضها الوعي الجمعي أساساً، الذي يفرض فهماً، هو في الغالب الأعم، متوارث لما جرى في التاريخ.
عبارة الوعي الجمعي هنا مخاتلة بعض الشيء، لذلك لزم التوضيح، فهي كعبارة مجردة قد تحيل على وعي عام يشترك فيه الجميع دون استثناء، لكن الحال ليس كذلك تماماً، على الأقل في الكثير من الحالات. فالجميع هم في الغالب عدة مجموعات، تحكمها معتقدات وتصورات غير متطابقة في أمور كثيرة، بينها وربما أهمها هو: كيف تنظر كل مجموعة من هذا «الجميع» المتعدد، للتاريخ؛ أي لما جرى من وقائع أصبحت ماضياً، أكان ذلك الماضي قد وقع قبل قرون بعيدة، أو قريبة، أو حتى قبل عقود فقط.
لنأخذ تعدد الملل والفرق الدينية مثالاً، حيث سنرى أن أساس تعددها هو وجود قراءات متعددة، قد تبلغ حد التناقض، لما جرى في الماضي، ووفق تعدد القراءات هذا، فإن كل ملة أو فرقة تحسب نفسها هي «الفرقة الناجية»؛ أي أنها ترى نفسها محتكرة للحقيقة.
ومهما بلغت درجة التعايش بين أبناء هذه الملل، فإن كل واحدة منها، على الأقل في وعيها الباطن، تحسب نفسها على حق، وأن الرؤية التي يتبنّاها الآخرون خاطئة.
ينسحب هذا على المجموعات والقوى السياسية، والتكتلات المجتمعية وغيرها، حيث إن لكل منها «حقيقته» الخاصة به، التي تعتبرها حقيقة مطلقة، نافية عنها النسبية، وبالتالي فإن «الحقيقة» الخاصة بكل مجموعة، هي في نظر المجموعات الأخرى زائفة أو غير كاملة.
حل هذه الإشكالية ليس سهلاً، ولكن يمكن أن نجد مخرجاً لتخفيف الغلواء في اعتماد مفهوم «نسبية» الحقيقة، ونفي إطلاقها، على أن ينسحب هذا على النظر ليشمل «نسبية» تأويل ما جرى في التاريخ نفسه.
جريدة الخليج