بحلول هذا العام، عام 2019، يكون قد مر خمسون عاماً على انطلاق البث الإذاعي والتلفزيوني في الإمارات، وأقصد هنا الإذاعات والقنوات الرسمية التي بدأت من إمارتي أبوظبي ودبي قبل قيام الاتحاد، وإن كان قد سبقتها محاولات فردية، وأخرى جرت تحت مظلة «مجلس الإمارات المتصالحة». وقد لاحظت أثناء بحثي في بدايات نشأة الإعلام الإذاعي والتلفزيوني ندرة المصادر التي توثق لهذه النشأة، وقلة المعلومات الواردة عن البدايات في الكتب الصادرة عن نشأة وتطور الإعلام في الإمارات، وتضارب المعلومات المنتشرة على الشبكة العنكبوتية حول هذه النشأة. وقد ذكرت هذا في المحاضرة التي شرفني مكتب شؤون المجالس في ديوان ولي عهد أبوظبي بإلقائها يوم الإثنين الماضي في مجلس محمد خلف المزروعي بمنطقة الكرامة في أبوظبي، بحضور معالي اللواء الركن طيار فارس خلف المزروعي، عضو المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي رئيس لجنة إدارة المهرجانات الثقافية والتراثية بأبوظبي، وعبدالله بطي القبيسي مدير إدارة الفعاليات والاتصال باللجنة، وعدد من الشخصيات الإعلامية والمثقفين.
وقد أسعدني حضور الدكتور عبدالله النويس، وكيل وزارة الإعلام والثقافة الأسبق وأحد أهم مؤسسي الإعلام الإماراتي، والأستاذ إبراهيم العابد، مستشار رئيس المجلس الوطني للإعلام، وأحد الذين ساهموا بجهد كبير في نهضة الإعلام الإماراتي، وجعلني هذا الحضور أشعر بأنها لم تكن محاضرة قدر ما كانت رحلة في الزمن الجميل الذي عشت جزءاً منه وشاركت بجهد في إنجازاته. وتعبير «الزمن الجميل» ليس من عندي، وإنما هو الوصف الذي أطلقه مقدم المحاضرة الإعلامي عبدالرحمن النقي على تلك الفترة. وهو تعبير لا يسييء إلى الأزمنة الأخرى، لكنه يحمل الكثير من الشجن والحنين إلى البدايات التي غالباً ما تكون محملة بالمشاعر الجياشة، وبالفضول الذي يدفع المشاركين فيها إلى سبر أغوار جديدة لم يعرفوها من قبل، ومعايشة لحظات انتظار جميلة لرؤية نتائج عملهم.
ماذا كان يسمع الناس في الإمارات، وماذا كانوا يشاهدون أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي؟ كان هذا هو السؤال الذي طرحته في بداية المحاضرة، كي أنفذ منه إلى بدايات تأسيس الإعلام الإذاعي والتلفزيوني في الإمارات. فمن الإذاعات كانت تصل إليهم إذاعة «بي بي سي» العربية، وإذاعة برلين العربية، وإذاعة الكويت، وإذاعة صوت العرب من القاهرة. وقد عرف أهل الإمارات وقتها أسماء أشهر مذيعي هذه الإذاعات، وتأثروا بما كانت تبثه من رسائل وبرامج. كما كانوا يشاهدون «تلفزيون أرامكو» الذي بدأ بثه عام 1957 من الظهران بالمملكة العربية السعودية، و«تلفزيون الكويت» الذي بدأ بثه الرسمي عام 1961.
بالشغف والحب بدأ مؤسسو الإعلام الإذاعي والتلفزيوني الإماراتي خطواتهم الأولى في هذا المجال. وقد بدأت الإذاعة بمحاولات فردية، كان من روادها العميد متقاعد صقر ماجد المري، الذي أطلق عام 1958 «إذاعة دبي من الشندغة» بأدوات بدائية، ليبث من خلالها ساعة في اليوم. كما أطلق المرحوم راشد عبدالله بن حمضة العليلي «إذاعة عجمان» عام 1962 ليبث من خلالها ثلاث ساعات يوميا. أما التلفزيون فقد بدأ بتلفزيون أبوظبي الذي انطلق بثه في السادس من أغسطس عام 1969، وبعده بشهر تقريبا انطلق «تلفزيون الكويت من دبي» الذي أنشأته حكومة الكويت بطلب من الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، عليه رحمة الله، حاكم دبي وقتها.
وبالشغف والحب أيضاً واجه مؤسسو الإعلام الإذاعي والتلفزيوني الإماراتي تحديات البدايات، واستطاعوا أن يجتازوا صعوبات التأسيس، حتى تفوقوا على من سبقهم إلى هذا المجال، وأصبحت قنوات الإمارات الإذاعية والتلفزيونية منافساً قوياً لمثيلاتها من القنوات الأخرى، واستطاعت خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي أن تحصد جوائز مهمة في مهرجانات الإذاعة والتلفزيون الخليجية والعربية، واحتلت مواقع متقدمة بين وسائل الإعلام المتنافسة على تصدر المشهد الإعلامي العربي في هذين القطاعين، قبل أن تنتقل إلى مرحلة البث الفضائي، وقبل أن تغدو مدن الإمارات الإعلامية مقرات لإذاعات وقنوات تلفزيونية عربية وعالمية مهمة ومؤثرة.
هذا النجاح الذي أحرزه الإعلام الإذاعي والتلفزيوني الإماراتي بعد فترة وجيزة من انطلاقه، ما كان له أن يتحقق لولا الدعم والاهتمام اللذين أولاهما إياه قادة هذا الوطن ومؤسسو الدولة، وعلى رأسهم المغفور لهما بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما. فقد حرص الشيخ زايد، عليه رحمة الله، على افتتاح «إذاعة أبوظبي» في 25 فبراير 1969 بكلمة مسجلة بصوته. كما حضر الشيخ راشد، عليه رحمة الله، افتتاح «تلفزيون الكويت من دبي» بنفسه، وأمر عام 1974 بإنشاء تلفزيون دبي الملون، وحضر افتتاحه أيضا.
واليوم، عندما نعود إلى البدايات الأولى للإعلام الإذاعي والتلفزيوني في الإمارات، نجد مجموعة من أبناء هذا الوطن الذين كانوا رواداً في هذا المجال الذي كان جديداً عليهم وعلى المنطقة، أحبوا الإذاعة والتلفزيون وواجهوا تحديات البدايات. وفي اليوبيل الذهبي للإعلام الإذاعي والتلفزيوني الإماراتي، يجدر بنا أن نتذكر ونكرّم هؤلاء الذين كان لهم فضل السبق في تأسيس هذا الإعلام، فقد دأبت دولتنا على تكريم الرواد والمخلصين من أبنائها، وقد بذل هؤلاء من الجهد ما يجعلهم جديرين بالتكريم بعد أن أصبحت دولتنا قبلة للإعلاميين من كل مكان، ونحن واثقون أن هذه الدعوة سيكون لها صدى لدى قيادتنا التي تعلمنا منها الوفاء.
جريدة الاتحاد