لا داعي للبكاء على «فيسبوك»، وخسائرها الخيالية في وقت قياسي، فما فقدته الشركة العملاقة يوم الخميس الماضي كان يمكن أن ينقذ لبنان، ويسدد ديونه، ويصلح كهرباءه وماءه وبيئته. ويبقى في جعبة زوكربيرغ ما يتجاوز النصف تريليون دولار، لو قرر غداً أن يبيع تطبيقه الذي يتباكى عليه، ويلقي باللوم على الاتحاد الأوروبي وإجراءاته، وكأنما هناك من يتآمر على الاقتصاد الأميركي، ويحيك له الكمائن.
شركات التواصل الاجتماعي بغت واستغلت، وتمادت في ممارسة سلطاتها التقنية، وفوقيتها الذكية، في عالم بدا لما يقارب عقداً من الزمن غبياً أمامها، محدود المعرفة، مكتوف الأيدي، مستسلماً لقدره. جمعت معلوماتها من كل راغب في الدخول إليها، دون حسيب أو قانون يردعها؛ مرة لتحسين الخدمة، ومرة لحفظ أمان المستخدم، والحجج كثيرة. مارست كل مغرياتها، وتشويقها، وأساليب الجذب البراقة، ونجحت في سحب الإعلانات من الصحف والتلفزيونات، وحتى الطرقات. ولولا مسألة الصلات الروسية في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وما نتج عنها من جدل كبير، وتحقيقات قضائية مست صلب الحياة الديمقراطية هناك، لما فتح ملف الانتهاكات السافرة. وما تحاول كل دولة في أوروبا فعله، بسن قوانين جديدة تفرضها على شركات وسائل التواصل، هو أن تحد من الأضرار لا أن تمنعها، فوقف انتهاكات الخصوصية أصبح مستحيلاً بعد أن سلم ثلث سكان المعمورة رقابهم لشركة «فيسبوك»، أضف إليهم مئات ملايين المغردين على «تويتر»، والمقيمين على «سنابشات»، والعارضين حياتهم على «إنستغرام»، والمثرثرين على «واتساب»، وغيرها مما يبتكر ويعرض.
وفي كل مرة، يوافق المستخدم على إعطاء ما يطلب منه، وكأنما لا هم له سوى الدخول إلى فردوس التطبيق المبتغى، حتى دون أن يقرأ لائحة الشروط التي يخضع لها، والمخاطر التي ينذر بها؛ تبين مثلاً أن «فيسبوك» تعرف وتتابع مكان وجود مستخدمها، حتى ولو رفض الموافقة على تحديد موقعه، وأنها تبقى قادرة على تتبع الشخص حتى لو حذف التطبيق من هاتفه. أما «تويتر» فهو يمسح الرسائل الخاصة، ويفند محتواها، وطبيعة تواصل الشخص مع آخرين، وأوقاتها وماهيتها، بحجة خدمته بشكل أفضل، وتوفير الحماية له. وهذا معلن ومكتوب في الشروط، وما خفي أعظم.
جل ما نعرفه أن «فيسبوك» باعت بيانات تخص 87 مليون مشترك لديها لشركة «كمبريدج أناليتيكا» الخاصة، التي تجمع البيانات وتحللها للوصول إلى استنتاجات انتخابية، ولا شيء يمنع أن تستخدم المعلومات في التأثير على أمزجة الناخبين وخياراتهم. ولا بد أن تخبرنا الأيام كيف استغلت حسابات مئات ملايين العرب، الذين يعتبرون من أنشط سكان الأرض على وسائل التواصل، في إدارة الحروب والثورات، وتحريك الرأي العام؟ وما الأدوار التي لعبتها عشرات ملايين الحسابات المزيفة على وسائل التواصل، منها ما حذف، وبعضها لا يزال موجوداً، في تغيير آراء الناس، واللعب على مشاعرهم؟ فهذا كله لا يزال سراً.
وما بين التزييف والأخبار الكاذبة والمعلومات التي يتم السطو عليها وتوزع بالحسنى، يظن كل منا أن معلوماته، كواحد بين الجموع، لن تقدم خدمة لأحد، فيما يشعر المواطن الأوروبي بالخطر، وهو ما يشي بوعي أكبر في قارة أغلق فيها ملايين المشتركين حساباتهم، وانكمشت الإعلانات، وشعر أصحاب الأسهم في شركات التواصل بالخطر.
إحساس بالراحة النفسية لدى المواطن العربي، وثقة عمياء لا مثيل لها، فالصينيون ابتكروا تطبيقاتهم الخاصة مبكراً، وصار لهم «بايدو» و«وي تشات» و«ويبو». ويفهم الآن أكثر من أي وقت مضى أن الحكومة الصينية كانت ترى عن بعد حين منعت وسائل التواصل الخارجية، بينما باءت المحاولات العربية في ابتكار البدائل بالفشل.
ويتوقع أصحاب إمبراطوريات التواصل أن تستمر أسهمهم في هبوطها لأسباب يدركون معناها ومنطقيتها، فبعد أن ترك لهم الحبل على الغارب، جاء وقت اللجم والقوننة، والخضوع لشيء من أخلاقيات السوق. لم يعد نشر الإعلانات الأوروبية مستباحاً من دون شفافية، والتصريح بالقيمة المدفوعة، ومصدرها بدقة. كما انتهى الزمن الذي توظف فيه الشركات العدد الأدنى من الموظفين، غير عابئة بالفوضى وبث الأذى والأفكار الشريرة التي تعشعش على صفحاتها. ثمة تحرك بريطاني لحث إمبراطوريات التواصل على التشدد في تطبيق قانون منع الصغار من فتح حسابات، متهمة إياهم بالتعامي وكأنهم لا يعرفون الحيل التي يستخدمها المراهقون، كما أغمضت عينيها ذات يوم عن الإرهابيين.
ستجد كل حكومة، ذات يوم، أنها مضطرة لاتخاذ إجراءات لحماية مواطنيها لا قمعهم، والفرق بين الاثنين قد يشبه شعرة عند التطبيق، ويحدث هوة من بعده.
النقاش الذي فتح مع زوكربيرغ، حول أحقية تعبير كل شخص عن رأيه حول «الهولوكوست»، يظهر بوضوح أن القادم ليس سهلاً. صاحب «فيسبوك»، الذي يقول إنه يهودي ومع ذلك لا يستطيع أن يحذف تعليقاً ينكر المحرقة، وكل حر في رأيه، يقابله رأي يتهمه بالتراخي في مواجهة التطرف، بحجة أن النازية بدأت دعايات وأفكاراً وتحريضاً، وانتهت إلى مجزرة.
أذكياء العالم، في غفلة من الزمن، شيدوا شبكات التفت على رقاب أهالي الأرض، مخترقين الحدود والفضاءات والقوانين، وحتى الأخلاقيات. لم يعد الذكاء حكراً على مجموعة صغيرة من الناس، جاء وقت الكشف والتنظيم، وإعادة الحسابات، وترتيب الأولويات. المقبل سيحتاج وقتاً وصبراً، والكثير من الحذر والعيون المفتوحة. إلى حينها، ثمة تطبيقات للتواصل الاجتماعي تخسر، وأخرى تربح وتطير أسهمها، مثل «إنستغرام» بفضل القصص المصورة التي باتت عشق الشباب، و«واتساب» بسبب سهولة الاستخدام وروحه العملية، وكلاهما للتذكير ملك لزوكربيرغ، وإخوة أشقاء لـ«فيسبوك»، وما سيفقده الرجل من هنا سيعود ويجمعه من هناك.
جريدة الشرق الاوسط