حرص العديد من الصحف والفضائيات المصرية والعربية على منح مساحات للاحتفال باليوبيل الفضي -25 عاماً- على رحيل بليغ حمدي، أمل مصر وبلبلها، كما أطلق عليه مؤرخو الموسيقى.
هناك اتجاه قوي لإعادة رد الاعتبار لهذا الموسيقار الكبير الذي عاش آخر سنوات عمره في مأساة، بعد أن كان مجبراً على أن يظل مطارداً خارج الحدود، تلاحقه تهمة جنائية أخلاقية عقوبتها السجن لمدة عام، كل من عرف بليغ عن قرب كان موقنا ببراءته، إلا أن القضاء لا يأخذ بالنيات ولكن قطعاً بالأدلة والقرائن، ومع الأسف كانت أغلبها ضده، فناله في منتصف الثمانينات هذا الحكم القاسي.
طبعاً أمام ساحة القضاء لم يشفع له تاريخه المرصع بأجمل وأصدق الألحان لأم كلثوم وعبد الحليم ونجاة وشادية ووردة ووديع الصافي وغيرهم.
بليغ حمدي هو الأول رقمياً على الساحة العربية، أتحدث عن مردود ألحانه التي عاشت في وجداننا، ولا تزال تحقق أعلى ما يعرف بـ(الأداء العلني) لأنها الأكثر تداولاً. لم يكن بليغ بالمناسبة هو الأغزر. عدد ألحانه لا يتجاوز 1500. بينما محمد الموجي والذي سبقه للحياة والتلحين ببضعة أعوام اقترب من رقم 2000.
في موسيقي بليغ سر وسحر ووميض خاص، بدليل كل هذا النجاح الذي ازداد معدله مع الزمن، طبعاً مع كل لقاء صحافي أو تلفزيوني يتناول أصدقاء بليغ ذكرياتهم معه، فلا يزال قطاع ممن عاصروه يملكون الكثير مما يروونه عنه، كالعادة هناك مبالغات وأحياناً متناقضات، كل هذا لم يعد يثير دهشتي من فرط تكراره، ولكن ما استوقفني أن أحد الأصدقاء، من الواضح أن بليغ قد وثق به حتى إنه استأمنه على خطابات أرسلها معه من الغربة، لكي يوصلها في مصر إلى عدد من المسؤولين والفنانين، من أجل التوسط لإعادته إلى أرض الوطن. الغريب أن الصديق، أقصد المفروض أنه صديق، نشر مؤخراً هذه المخطوطات.
كتب بليغ الخطابات في لحظة ضعف وكلها استجداء، بعد أن مرّ عليه الزمن وازدادت قسوة الغربة وألم الاتهام الباطل الذي يلاحقه، فكان لديه أمل أن يتدخلوا لإعادته إلى الوطن.
الخطابات عمرها تجاوز 30 عاماً، مرّ كل هذا الزمن، وهي بحوزة من كان يعتبره بليغ حمدي صديقه وكاتم أسراره. ولدينا احتمالان؛ الأول مستبعَد وهو أنه لم يوصل هذه الخطابات إلى أصحابها، ويبقى السيناريو الثاني وهو الأقرب إلى الصحة، أنه قبل أن يسلم هذه المخطوطات لأصحابها احتفظ بنسخ مصورة منها، رغم علمه أنها سرية، هل كان ينتظر رحيل بليغ حتى تتاح له فرصة نشرها من دون خوف من اللوم؟
ولم تكن تلك المرة الأولى. لقد تابعت قبلها صديقاً آخر ينشر خطابات بليغ التي كان يكتبها لأديبة لبنانية وقع في حبها، وكان يستعد للزواج منها، ومن الواضح أن بليغ كان كثيراً ما يبوح بمشاعره المكبوتة لهذا الصديق، حتى هواجسه العاطفية وجد في هذا الصديق ما يمكن أن يخففها عنه، إلا أن هذا لا يمنح الأصدقاء رخصة للبوح بما هو خاص، الرغبة في الوجود الإعلامي لا يمكن أن تُصبح مبرراً لإحالة الخاص إلى عام، ثم إن للصداقة ثمناً يتلخص في كلمة واحدة صارت نادرة في زماننا، إنها الوفاء.
سألوا أعرابياً: «أيهما أقرب إليك، أخوك أم صديقك؟»، أجابهم: «أخي إذا كان صديقي»، تلك هي مكانة الصديق، فهو يعلو حتى على صلة القربى والرحم، على شرط أن يكون جديراً بالصداقة!
جريدة الشرق الأوسط