يعكس مصطلح قتل الأب نوعاً من تصفية حساب ما من قبل الابن مع أبيه، وهذا المصطلح يتداول في الأدب للإشارة إلى محاولة جيل لاحق التفوّق على جيل سابق، أو أحد رموزه وأعلامه الذي يبدو طاغياً بتأثيره، بحيث يكون التخلّص من تأثيره ذاك كسراً لقيود سجن الآخر وانطلاقاً نحو فضاء شخصي مشتهى ومأمول.
بالحديث عن الأب البيولوجي، وليس الأب بمعناه الأدبي أو الرمزيّ الذي يشير إلى نوع من العرّابية والريادة، فإنه يفترض بالعلاقة الطبيعية بين الأب والابن أن تكون مبنية على الحب والعطاء والاحترام والتقدير وغير ذلك من الفضائل، لكن الأمر يكون على العكس لدى بعض الآباء، ممن تشوب علاقاتهم مع أبنائهم خلافات، فيشعر الأبناء بغربة عنهم، ويبحثون عن طريقهم بعيداً، ويحملون لهم الضغينة، ولا يمكنهم أن يغفروا لهم بسهولة..
هناك أدباء كتبوا عن عظمة آبائهم واحتفوا بهم وبذكراهم، منهم مثلاً الأميركي مايرون أولبرغ في روايته “يدا أبي”، والفرنسية الإيرانية ياسمينا منتظمي في روايتها “بيهروز أجمل الأيام”، والتركي أورهان باموق الحائز جائزة نوبل للآداب 2006، والذي اختار عنونة خطاب تسلمه الجائزة بـ”حقيبة أبي” عن حقيبة أبيه التي كانت بوابته الكبرى إلى العالم الداخلي والخارجي معاً.
وفي المقابل هناك أدباء اتسمت علاقاتهم مع آبائهم بجفاء، وعبروا عن خيبتهم بهم ومرارتهم بحضورهم في حياتهم، وظلّوا يحملون ذكراهم معهم كندوب مشوّهة لا يستطيعون التخلّص منها أو مداراتها، فلجؤوا إلى الكتابة كنوع من الترويح عن أنفسهم من جهة، ومحاولة تصفية حساب تاريخي معهم من جهة أخرى ربّما.
من مشاهير الأدب الذين كانت علاقاتهم سيّئة بوالدهم، التشيكي فرانز كافكا، الذي كان يشعر باغتراب دائم عن أبيه، كان يشعر به طاغية يحاول رسم مسار حياته له، ولا يقتنع بالخط الذي اختاره لنفسه، وكان تعامله معه يعبّر عن غضب منه ومن سلوكياته واختياراته، وقد كان في روايته “المسخ” مجسّداً في جوانب معينة لحالة الاغتراب والجفاء بين الابن والأب..
وهناك السويسري يورج أكلين في روايته “الأب”، حيث الأب طاغية بدوره، يسعى إلى تعزيز استبداده على أبنائه وأسرته، وتكون صورته المقترحة حمالة لجزء من رغبة انتقامية غير معلنة، ولا سيما أن الرواية تحمل جوانب سيرية، ومحطات من حياة أكلين نفسه في رداء روائيّ.
ولعلّ الصورة الأكثر صدمة واستفزازاً وإيلاماً هي التي قدّمتها الروائية الأميركية توني ماغواير لأبيها في عملها السيري “تركوا بابا يعود”، حيث تحدثت عن اغتصابه لها، وحملها منه وهي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، وكيف أنه حاول أن يغتصبها على مدار سنوات طفولتها، بحيث أن الأب الذي يجب أن يكون رحيماً بأبنائه مضحّياً من أجلهم يتحوّل إلى وحش مجرم يفتك بهم.
وهناك نماذج أخرى يمكن الاستئناس بها في هذا المجال، حيث العلاقة الإنسانية تنقلب إلى نقيضها الواجب، ويختلّ ميزانها فتغدو كارثية على طرفيها، وتدفع كلّاً منهما إلى التنفير من الآخر، والابتعاد عنه لأنّه يذكّره بمأساته التي لا تنتهي.
ينكأ الروائيّون جروح ماضيهم حين يكشفون عن قسوة آبائهم، وخيبتهم الكبرى بهم، وكيف لعبوا دوراً كارثيّاً في حياتهم، بدل أن يكونوا سنداً ودعماً لهم كما يجب أن يكون الأب الحقيقيّ.
فهل تكون الكتابة في هذه الحالات نوعاً من التطهّر للمسامحة والغفران، أم هي تأثيم وتجريم للتبرّؤ من أدران ماضٍ يظلّ حاضراً بقوّة في نفوس أصحابه؟
صحيفة العرب