يوفر الإعلان الدعم الحيوي للنظام الإعلامي عبر الوسائل الجماهيرية، وبدأ الباحثون في تصحيح هذا الجانب بالإشارة إلى العلاقة بين الإعلان والنظام الصناعي المتطور، إذ ظهر أن إنتاج ثقافة استهلاكية يعتبر شرطاً ضرورياً لتلبية حاجات السوق، وفي الوقت نفسه حقق الإعلان وظيفة أيديولوجية بتدويل نظرية أن الاستهلاك يتساوى مع الديموقراطية، وأن الأحلام الاجتماعية يمكن تحقيقها من خلال الاستهلاك.
وتؤكد غالبية البحوث الإعلامية التي أجريت عن الإعلان أن وسائل الإعلام لا تتعامل مع الجمهور باعتباره مستهلكاً فحسب، وإنما تحول الجمهور نفسه إلى سلعة تباع إلى المعلنين.
ويمتد تأثير الإعلان على المستوى الدولي من خلال الشركات المتعددة الجنسية في صورة الحملات الإعلانية. وإذا كان الإعلان يوفر الدعم لنظام الإعلام، فإن التكنولوجيا توفر وسائل صنع ونشر الصور الذهنية والرسائل والمعلومات. وكان من المتوقع أن تشكل التكنولوجيا الاتصالية إحدى نقاط التركيز الأساسية في بحوث الاتصال القائمة، إلا أن البحوث التقليدية اعتبرت التكنولوجيا متغيراً مستقلاً ذا قوة ذاتية تخلق أوضاعاً جديدة مثيرة. ووجه الخطورة في مثل هذا النوع من البحوث عن تأثيرات التكنولوجيا يعزى إلى تعمدها استبعاد دراسة الآثار المجتمعية للتكنولوجيا. وعلى النقيض من ذلك، اهتمت الدراسات النقدية بمفهوم التكنولوجيا والعمليات التكنولوجية الجديدة وتصميمها وتمويلها وتجهيزاتها على أساس أن التكنولوجيا بناء اجتماعي. ويمكن التدليل على مدى زيف فكرة أن التكنولوجيا محايدة عند تفتيتها مؤسسياً واختبار أصولها، فتتكشف علاقات مدهشة مثلاً بين جماعات المصالح المرتبطة بواضعي المشروع ومخططيه وبين مروجي المشروعات ومموليها الذين يشترون التطبيقات الأولى للتكنولوجيا ويستخدمونها.
وتظهر بصورة أوضح في مجال الاتصال عن سواه، الصلةُ القوية بين التكنولوجيا ومراكز القوة صانعة القرار في النظام الاجتماعي، فقد تصدّرت المجالات العسكرية دراسات الاتصالات وتطوراتها وتطبيقاتها على مدى قرن في أقل تقدير في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الاقتصادي. وتتصل بهذه المجالات شركات الأدوات الكهربائية والاتصالات والفضاء والإلكترونيات. ولا شك في أن التركيز على الإنتاج في دراسة الاتصال وتوسيع هذا المفهوم ليشمل مؤسسات أساسية كالإعلان والتكنولوجيا مثلاً يؤدي حتماً إلى إبراز الفروق الجذرية بين البحوث النقدية والتقليدية في مجال الاتصال وتأثيراتها السياسية.
وما يجدر ذكره أن البحوث التقليدية التي تركز على الأفراد وتعتمد منهجياً على الأساليب المسحية والكمية تلقى قبولاً جماعياً سواء من جانب الحكومات أو السوق أو المؤسسات الأكاديمية.
وتستمد هذه البحوث سطوتها من افتراض أن المؤسسات والجماعات ستستفيد من نتائجها. وفي الواقع أنها لا تحقق ذلك والقراءة البديلة التي تؤيدها نتائج البحوث النقدية تكشف أن نتائج البحث المسحي تتحول عادة من طريق البناء الاجتماعي السائد وبغض النظر عن النيات إلى نتائج لمصلحة الأكثر قوة وثراء ونفوذاً على حساب الذين لا يملكون.
والخلاصة أن هناك قوة راسخة بنيوياً تجعل الاتصال يشغل العملية المركزية في التنظيم الاجتماعي دولياً ووطنياً. وفي الوقت ذاته، فإن أقوى الجماعات صانعة القرار محلياً ودولياً تمتلك وتروج تكنولوجياً معلومات جديدة تدعم وتوسع مواقعها. لذلك؛ أصبحت دراسة الاتصال مشروعاً ذا أخطار عدة. فالحفاظ على أنظمة السلطة محلياً ودولياً يدخل في الحسبان وتعنى بذلك وفي شكل متزايد الشركات المتعددة الجنسية، والجهاز العسكري وأعلى المستويات الحكومية.
وتتكشف الأهداف الخفية للقوى المحلية والعالمية عندما يتم رصد السياسات البحثية للهيئات الدولية والحكومات الوطنية والباحثين المستقلين. فإذا ما وجدتها جماعات السلطة غير مقبولة لها تُحارَب بشراسة. فعلى سبيل المثل الـ «يونيسكو» التي عكست منذ أواخر الستينات ولو في شكل ضعيف، وجهات النظر الاتصالية والثقافية لأعضائها ومعظمهم من العالم الثالث، صورت على أنها قوة يسارية من غالبية وسائل الإعلام الغربية وما تمثله من مصالح. وليست القضية مجرد خلق صورة عدائية وإنما تهديد الحكومة الأميركية باستمرار بسحب دعمها المادي المهم الذي يمثل 25 في المئة من الموازنة، إضافة إلى التدخل لعدم تشجيع الأخذ بالدراسات التي تجدها غير مقبولة لها. وهذا ما حدث عندما انسحبت أميركا من الـ «يونيسكو» عقاباً لها على تقرير ماكبرايد. وتصل السيطرة إلى البرج العاجي أيضاً، فالأنظمة الجامعية الأميركية تضطر تحت الضغوط المادية لأن تجعل أكثر نشاطاتها البحثية تقدماً متكاملة مع شبكات الشركات المتعددة الجنسية. وهذه الجامعات لم تكن قط خارج نظام السلطة إلا أنها سمحت بهامش محدود لبعض العقول المستقلة.
وأين يُترك هذا العقل المستقل، ليقول أي شيء عن البحث النقدي في مجال الاتصال؟ لقد توفرت للتيارات النقدية الفاعلة في عصر الشركات المتعددة الجنسية فرص قصيرة الأجل للمشاركة، ولكن العصر الذي يتسم بعدم الاستقرار، سيشهد ظهور عناصر دولية جديدة من دول وشعوب تطالب بحقوقها من خلال تكثيف الضغط للتغيير الشامل. ويتوقف مدى تحقق هذا لكل دولة على خصوصيتها التاريخية وغيرها من خصوصيات. ولا شك في أن عدم الاستقرار المتزايد الذي يسود الشمال والجنوب سيوفر فرصاً وأخطاراً في آن واحد للقائمين بالبحث النقدي والجماعات الأخرى المعنية.
جريدة الحياة