على طرف من منطقة الأهوار في جنوب العراق، وقعت ناحية المدينة التي لم يربطها أي طريق بالعالم الخارجي غير زورق من زوارق المشاحيف المصنوعة من الألياف التي كانت تتحرك وتدور يدوياً بفعل قضبان خشبية بدائية نضرب قعر الهور وتتحرك في الاتجاه الذي تريده. كانت أشبه ما يمكن بزوارق مدينة البندقية، فينيسيا، مع الفارق طبعاً. هكذا ركبت مشحوفاً من هذه المشاحيف أوصلتني حيث أريد.
تسلم أخي إحسان إدارة هذه الناحية النائية في تلك الأعوام المتخلفة. لم يكن فيها أي كهرباء أو غاز أو ماء نقي أو إضاءة غير فانوس نفطي واحد كانوا يعلقونه أمام بيت مدير الناحية كرمز لهيبة الحكومة. عاد إحسان ذات ليلة فوجد ذلك الفانوس مطفأ فاستشاط غضباً وتصور أن انقلاباً قد وقع في البلاد. فنادى على كاتب الناحية ومعلم المدرسة وعريف الشرطة والبوسطجي. خرجوا بدشداشاتهم البيضاء تاركين وراءهم زوجاتهم يبتهلن لله تعالى أن تمر الأزمة بسلام ولا يسجن مدير الناحية كل أزواجهن ويتركهن فريسة للرايح والجاي. بادرهم أخي غاضباً: «ليش الفانوس مطفي اليوم؟ يعني الحكومة ماتت؟».
أجابه كاتب الناحية باضطراب: «سيدي مدير الناحية السابق الأستاذ فاضل العلواني، أمر بأن نقتصد بالنفط وما نشعل الفانوس لما يكون أكو قمر قوي في السما». أمر إحسان بإلغاء هذا الأمر السابق فوراً وأن يُستبدل به أمر جديد. «من الآن وصاعداً، أكو قمر أو ماكو قمر بالسما، الفانوس لازم يشتعل». قال كاتب الناحية لأخي: «أستاذ أبو جهان يعني وإذا خلص النفط؟».
– «إذا خلص النفط تاخذون فلوس من البوسطجي، من فلوس الطوابع، وتشترون بطل نفط من البقال. المهم ما أريد أن أرجع في يوم من الأيام وأشوف هذا الفانوس مطفي».
أنا واثق الآن أنهم عندما سيكتبون تاريخ العراق الحديث سيذكرون هذه المأثرة من مآثر أخي إحسان فيقولون إنه في عهد إحسان القشطيني جرت إصلاحات مهمة في جنوب العراق كان منها إيقاد فانوس ناحية المدينة في الليالي المقمرة، بالإضافة لليالي المظلمة أيضاً. وكنا كلما عدنا ليلاً من النادي وجدنا الشرطي واقفاً أمام البيت ويشير ببنانه لنا إلى الفانوس المشتعل. ونحن بدورنا نهز رؤوسنا بالتحية له اعترافاً بقيامه بواجبه.
عدت إلى بغداد ورويت ذلك إلى والدتي، رحمها الله، كيف أن ابنها إحسان استعمل سلطته في ناحية المدينة وأمر بإيقاد فانوس الحكومة في الليالي المظلمة والليالي المقمرة أيضاً. هزت والدتي رأسها بشيء من الأسى، وقالت: «معلوم، أخوك إحسان الله خالقه على الصرف والتبذير. إذا كان يخلي الراديو يشتغل الليل كله وهو نايم يشوخر، ليش ما يشعل فانوس الحكومة لما أكو قمر نشيط في السما»؟
جريدة الشرق الاوسط