لا يملك الكاتب السورى خليل صويلح أصدقاء كما يرغب، وكما يحتاج. أصدقاؤه هاجروا خارج البلاد واحداً وراء الآخر، أو أنهم ماتوا باكراً. طاولته فى مقهى الروضة التى كانت تزدحم بهم قبل سنوات شبه خاوية اليوم.
بالكاد يعبر أحدهم مثقلاً بهموم وأوجاع ومكائد الحرب. صداقات تنطفئ بانتهاء جلسة الظهيرة. هكذا يعيش عزلة قسرية، وأحياناً عزلة اختيارية لمقاومة الضجر والتكرار والطعنات. يقول: «بالنسبة لبدوى مثلى لم أتمكّن من الانخراط بتربية العلاقات العامة والنفاق والعناق المجانى لمن لا أشتاق إليه فعلاً. الوضوح أكسبنى عداوات أكثر مما منحنى صداقات. هناك أيضاً الغيرة المهنية، ذلك أن العمل فى الصحافة الثقافية يراكم خصوماً بالجملة. خلال عملى لسنوات فى المؤسسة العامة للسينما، فقدت صداقات معظم السينمائيين. ما إن تكتب عن فيلم أحدهم جملة نقدية مضادة حتى تجد نفسك فى خندق الأعداء. اتسعت دائرة الخصوم أثناء عملى الطويل بمنابر ثقافية مختلفة، وإذا بالضغينة المهنية ترتدى عباءة شخصية، خصوصاً من أولئك الذين احتضنتهم فى بداياتهم، وكأن قتل الأب باكراً ضرورة حياتية للتخلّص من أعباء ومثالب الأمس».
فى الثمانينيات أدار صاحب «عين الذئب» و«ورَّاق الحب» و«بريد عاجل» و«دع عنك لومى» ظهره للصحراء. اجتاز ألف كيلو مترا باتجاه العاصمة مدفوعاً برغبة الكتابة، وكان من أوائل من تعرف إليهم الشاعر رياض الصالح الحسين صاحب «خراب الدورة الدموية». التقيا فى موقف الباص أمام صحيفة تشرين، ثم حجزا مكاناً فى ممر الباص المزدحم، تبادلا عبارات خاطفة، ثمّ ذهبا إلى «اللاتيرنا» ملتقى المثقفين فى الثمانينات، ثم التقيا مساءً فى بيت الشاعر بندر عبد الحميد، الذى كان يجمع معظم مثقفى تلك الفترة، ثمّ لم يفترقا لاحقاً طوال ثلاث سنوات، إذ فجع خليل بموته المبكّر. يقول: «كان رياض من ألمع شعراء تلك الفترة، فقد حاسة السمع فى طفولته. نشأت صداقتنا بالكتابة على الورق. كان يكتب لى ما يود قوله، وأجيبه بكتابة مماثلة على طرف جريدة أو فى الهواء أو على ركبتى. باندفاعات الألفة صار يلتقط حركة الشفاه. كتب بعض قصائده فى غرفتى، ثمّ شطب الإهداء إثر خصومة طارئة بسبب امرأة. كان يزورنى يومياً فى القبو الذى استأجرته فى حى المزرعة، وأزوره فى غرفته فى حى الديوانية القريب من سكنى. ألقى حصاة باتجاه نافذة غرفته فى الطبقة الثانية من بيت عربى قديم كى يفتح الباب. كان أليفاً وشفّافاً وموهوباً، مات بفشل كلوى فأفجعنى غيابه».
فى مقهى الروضة سيتعرّف صويلح إلى شعراء الثمانينيات والتسعينيات. يقول إن «معظمهم كانوا أدونيسيين بمواهب ضحلة عموماً، فيما كان الشعراء الأكراد يقتفون أثر سليم بركات، وكان للماغوط حصّة أيضاً، وكانوا متسكعين كصعاليك ولكن بلا نبالة»، ويضيف: «ريبتى البدوية ربما هى من وضعتنى على مسافة من هؤلاء، عدا أوقات فراغ لا ترقى إلى مرتبة الصداقة بسبب فخاخ كثيرة كانوا ينصبونها فى وضح النهار. سأجد ضالتى بشاعر من جيل السبعينيات هو إبراهيم الجرادى العائد من موسكو للتو. بدوى يشبهنى فى نفوره وخشمه المرفوع وأمراضه العاطفية. صحبة طويلة وأسرار ونميمة وشغف بالكتابة المضادة، وتشريح الموائد الثقافية المجاورة بمبضعٍ حاد. صداقة حميمة، وشجن واعترافات وسخط. سأهجر كتابة الشعر نحو الرواية فيما سيستمر الجرادى من منفاه اليمنى بكتابة نصوصه التجريبية. كان أول من يقرأ مخطوطات رواياتى باهتمام، قبل نشرها، وكنّا مأخوذين باللغة التى تحمل أوجاع الشمال، وتزعزع طمأنينة المركز بإيقاظ النخوة المفقودة فى البلاغة، لكن صاحب (شهوة الضدّ) سينكفئ لاحقاً نحو الإيقاع، وكأنه لم يكتب يوماً (رجل يستحم بامرأة)، وسينطفئ تدريجياً تحت ثقل هموم المنفى والوحدة والهباء، ثمّ سيعود إلى البلاد متأخراً. قال لى قبل رحيله المفجع، ونحن خارجان من مقهى الروضة: أنا مريض، ثمّ سيعترف بأنه السرطان، أجرى عملية ناجحة لاستئصال الورم، لكن جلطة دماغية باغتته بعد أيام، وفقد النطق، حاول أن يكتب لى ما يود قوله لكن خطه لم يكن واضحاً، وبقيت الكلمات على هيئة ألغاز. مات فى صبيحة يوم شتوى، وأجهشت ببكاء محموم، ولم أملك شجاعة حضور الجنازة، ليدفن فى مقبرة الغرباء من دون أن يعود إلى مسقط رأسه على ضفاف الفرات».
قبلها بأشهر مات رياض شيّا فى باريس بسرطان الحنجرة. كان للوقت مع هذا المخرج السينمائى طعم آخر، كما يحكى خليل، وهما يتبادلان أسماء الروايات وفلاسفة الصورة ومواقع الحانات فى أزقة دمشق القديمة، ثم رحل من دون أن ينجزا عملاً سينمائياً مشتركاً، كما كان يفكّر.
اقترب صويلح من محمد الماغوط كذلك. بدأت العلاقة بينهما مهنية، فقد كان صويلح مراسلاً لمجلة «الوسط» اللندنية، وكان الماغوط يكتب صفحة أسبوعية فيها، كما كانا يقطنان شارعاً واحداً، وشيئاً فشيئاً نشأت بينهما صداقة من نوعٍ ما، كانت حصيلتها كتابه عنه «اغتصاب كان وأخواتها»، وهو أقرب ما يكون إلى سيرة ذاتية على هيئة حوار طويل ومتشعب. يقول: «كان مثل ذئب وحيد، وكنت أنصت إلى عوائه»، ويعلق: «هكذا ترى بأننى صديق الموتى، ففى مدينة شبه خاوية يصعب أن تجد صديقاً دائماً. هناك عابرون»، ولكنه يستدرك: «ولكن مهلاً، ينبغى أن أتوقف عند صداقة من نوعٍ مختلف جمعتنى بالسينمائى محمد ملص طوال سنوات الحرب. نلتقى أسبوعياً فى ظهيرة مقهى الروضة بناءً على اتصال هاتفى منه. نتبادل أفكاراً جديّة فى السينما وأمراض الثقافة وفساد المؤسسات الثقافية والشائعات والمشاريع المجهضة. أزوده بمخطوطات رواياتى الأخيرة، وأنصت إلى ملاحظاته بانتباه، كما لا أتردد فى إبداء ملاحظاتى على سيناريوهات أفلامه المؤجلة، أو مخطوطات يومياته ومراسلاته، بالإضافة إلى أننا نقتسم الضجر وفكرة اللاأمل، وهى تنمو بأنياب وحش، حول مائدة الرخام وأكواب القهوة المرّة، وبقايا السجائر. صراحتى المفرطة فى تقويم عمل ما، أو شخصٍ ما، أكسبتنى عداوات مؤقتة، ستتحوّل لاحقاً إلى ثقة، فالأصدقاء يحتاجون إلى رأى سديد أمام مجاملات الآخرين. يمتصون الصدمة على مراحل من شخص يثقون بصواب رأيه، وسوف أحتل هذه الصفة باطمئنان كوشم بدوى فى الساعد، وربما لهذا السبب لدى صديقات أكثر مما لدى من الأصدقاء. فى عزلتى الراهنة اتكئ على أكتاف الكتب، أنصت إلى اعترافات الآخرين وحكمتهم وطيشهم، أحس بغبطة حقيقية عندما أكتشف كتاباً ملهماً، إذ يرافقنى إلى المقهى وفى السرير إلى أن أقع على كتابٍ آخر».
فى الصداقة، تحضره رواية أريك ماريا ريمارك «ثلاثة رفاق»، وتذهله تلك الصحبة بين دون كيخوته وسانشو فى تحفة سرفانتس، فما الصداقة إذن؟ يجيب خليل صويلح: «هى أن تخلع أقنعتك، أن تمنح مفتاح صندوقك الأسود لكائن آخر دون خشية أو وجل، وكأنه قرينك. الصديق هو الشخص الذى تهديه زمرة دمك بلا تردّد».
اخبار الأدب